ذوأنهاكما عن اثنتين: عن الشرك، وعن الكبر، قالوا: يا رسول الله! فأما الشرك فقد عرفناه، فما الكبر، الرجل يتخذ نعلين حسنتين لهما شراكان حسنان أفهذا أكبر؟ قال: لا.
قال: الرجل يتخذ حلةً أفهذا أكبر؟ قال: لا.
قال: فيتخذ أصحاباً أفهذا أكبر؟ قال: لا، قالوا: فما الكبر؟ قال: بطر الحق وغمط الناس).
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال ذرة من كبر.
قالوا: يا رسول الله! إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً أفَيُعَدُّ هذا من الكبر؟ قال: لا.
إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس) (بطر الحق): البطر.
معناه: الكفر، بطر بالنعمة، أي: كفرها، بطر بالحق: أي كفر بالحق ورده بعدما ظهر له، فهذا هو الكبر، الذي قال فيه ربنا تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، من نازعني فيهما ألقيتُه في النار ولا أبالي).
وقوله: (وغمط الناس) معنى الغمط: أي: الحط، غمط على فلان.
أي: حط منه واحتقره، ونسبه إلى الضعف والهوان، فغمط الناس أي: الحط عليهم واحتقارهم.
فهذا هو الفعل الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونهى عنه نوحٌ عليه السلام وهو يوصي ولديه.
وإن يسر الله تبارك وتعالى سيكون لنا بعض الدروس -لكن ليست في مواعيد ثابتة- في مثل هذه الصفات المذمومة مثل: الكذب، والعُجْب، والبطر، حتى لا يركن المسلم إلى مثل هذه الصفات؛ لأن مثل الرياء أو الشرك قد يكون أحياناً أخفى من دبيب النمل، والرجل قد يأمن مكر الله تبارك وتعالى، ويتصور أنه لا يمكن أن يغتر في يوم من الأيام، فتزل قدمه.
ولا يدخل الجنة إلا خائفٌ، أي: لا يصل إلى الجنة بأمان إلا الخائف، فأين الذي قد نام ملء جفونه وظن أن مثل هذه الصفات لا يمكن أن تحوم حوله، ونام (قرير العين هانيها)! هذا في الغالب، وكما يقول بعض السلف: (رب طاعة أورثت عزاً واستكباراً، ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً).
ويقول بعض السلف -وهو متسرع في هذه الكلمة- (إن العبد ليذنب الذنب فيأخذ بيده إلى الجنة، وإن العبد ليفعل الطاعة فتقوده إلى النار).
لو أن أي رجل سطحي التفكير قرأ هذا الكلام لهذا العالِم الجليل لظن أن هذا ضد الآيات وضد الأحاديث، وهو لا يقصد هذا، لا يقصد أن الذي يفعل الطاعة تأخذه طاعته إلى النار، وأن الذي يفعل المعصية تأخذه معصيته إلى الجنة، فهذا مستحيل، بل لا يمكن أن يخطر على بال أحد.
إنما يقصد هذا العالِم الجليل أن الرجل قد يطيع الله تبارك وتعالى في طاعة ما، فيفتخر بها، ويقول: أنا أقوم الليل، وأصوم، وأتصدق بمالي، وفلان كان جائعاً وأنا أكَّلته، وفلان كان يريد غطاءً وأنا كسوته، وفلان الفلاني في المستشفى أنا وصِّيت عليه وأعطيته مبلغاً، ويجهر بهذا، وعنده من الشهوة الخفية وهو العُجْب، شيء كثير يحبط مثل هذه الأعمال.
هذا معنى ما يريده هذا العالِم.
(ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً): كالرجل يفعل الذنب ويظل مشفقاً على نفسه، ويظن أن الله تبارك وتعالى سيؤاخذه بذنبه، فيظل خائفاً من لقاء الله تبارك وتعالى، فلا يقارف المعاصي أبداًَ.
فهذه المعصية عادت عليه بالنفع، وهذه الطاعة عادت عليه بالضر.
ومحور ارتكاز هذا المفهوم هو: النية.
فكلما أخلصت لله تبارك وتعالى، وخلَّصت أعمالك من شوائب الرياء والسمعة والعُجب، كان عملك أقرب إلى القبول.
ففي صحيح البخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت عندما تلت قوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، معنى الآية: أن عباداً لله تبارك وتعالى يفعلون الشيء وهم خائفون، وسر خوفهم أنهم سيرجعون إلى الله تبارك وتعالى فيحاسبهم على ما فعلوا: ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا)) [المؤمنون:60] أي: يفعلون الفعل الذي يفعلونه، ويأتون به: ((وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)) [المؤمنون:60] من هذا الفعل: ((أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)) [المؤمنون:60] أي: بسبب أنهم راجعون إلى الله عز وجل، فقالت عائشة: (يا رسول الله! أهذا الرجل يسرق ويزني؟ -الرجل يفعل الشيء وهو خائف، من المؤكد أنه يفعل معصية؛ فهل سيتصدق وهو خائف؟! أو يدخل مثلاً يصلي أو يقوم الليل وهو خائف؟! هذا لم يخطر في بال عائشة، إنما قالت: - يا رسول الله أهذا الرجل يسرق ويزني؟ قال: لا يا ابنة الصديق.
هؤلاء أقوام يُصَلُّون ويزكون ويصومون ويخشون ألاَّ يُتَقَبَّل منهم).
إذاً: المسألة لم تَعُد مسألة معصية، بل إن هذا أرقى درجات الورع، بمعنى أننا الآن بعيدون جداً عن حيز المعصية، نحن مع أتقى خلق الله عز وجل: ((يُؤْتُونَ مَا آتَوا)) [المؤمنون:60] يتصدقون ويصلون، ويصومون ويزكون، ويفعلون الخيرات وقلب الواحد منهم خائف، خائف من أن الله تبارك وتعالى يردُّ عليه عمله، بأن يكون قد تسلل إلى قلبه شيء من هذه الشهوة الخفية، والله تبارك وتعالى لا يظلم، فإن رد على العبد عمله فهو لم يظلمه.
(فيخشى هؤلاء ألاَّ يُتَقَبَّل منهم).
لذلك من منطلق قول حذيفة رضي الله عنه في صحيح البخاري: (كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني) أما وقد استطالت مثل هذه الشرور فإننا نضع إن شاء الله تبارك وتعالى معالم لكل صفة مذ مومة حتى يتجنبها المسلمون.
نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير، وأن يتقبل منا العمل الصالح إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين.