وواصل إبراهيم البحث، وكل ليلة يسهر مشغولاً، انظر القضية! شبابنا، رجالنا، نساؤنا بأي قضية شغلوا؟ بينما إبراهيم عليه السلام مشغولٌ بإلهه، هو كل حياته، يوظف كل شيءٍ في طريقه إلى الله ليزداد إيماناً، فهذه هي قضيته، قضية القضايا أن تُشغل بإلهك الذي تعبده، ليس هناك قضيةٌ ينبغي أن تطفو فوق هذه على الإطلاق إذا كنت محباً لربك، فقد وجدنا في حياة الناس وهم يتكلمون عن الحب والمحبوب فلو أن فلاناً من الناس قال: أنا أحب كذا.
فيقول المحب: وفلان -أي: محبوبه- كذلك يحب كذا، للذي يحبه.
فإذا سمع من يقول: أنا أكره كذا، يقول له: وكذلك فلان يكره هذا أيضاً.
يقول: وأنا مالي ومال فلان، من الذي دخل فلاناً في الموضوع؟ ألأنه حبيبك تحشر اسمه في كل شيء، حتى ولو لم يكن لذكره معنى.
فهل -مثلاً- إذا قال شخص: أنا أكره الخمر.
أقول: وربي حرمه.
هل مثلاً إذا قال: إني أحب السماحة وأحب التجاوز.
فيقول: وربي يحبه هل ممكن تقول هذا الكلام؟ كلما جاءت نقيصة قلنا: إن الله يكرهها، وكلما جاء خير قلنا: إن الله يحبه؟ نحن نرى آيات الله في مظاهر الكون، ومع ذلك نمر عليها معرضين، أنا أتعجب! قبل عدة أيام المطر كان شديداً، وبعض الناس يقول: مطر في عز الصيف، أهذا وقته؟! ماذا يعني هذا؟ يعني أن الذي أنزل المطر لم يعلم مصالح العباد! هذا كثير من الناس يقول هذا الكلام، ألا يعلم أن هذا المطر يحيي به الله ملايين الكائنات، لماذا لم ينسب الفضل والجمال إلى إلهه ويسلم له بالحكمة؟ إبراهيم عليه السلام يواصل، قضية القضايا (إلهه الذي يعبده)، ويبحث له عن مثالٍ في الكون يتعلق به، وإن كان هو أجل من المثال؛ فإن الله ضرب مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، والله أعلى وأجل، إنما يبحث المرء عن مثالٍ جميلٍ كلما رآه ذكَّره بإلهه أو ذكره بمن يحب، فيواصل البحث.
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76]، ثاني ليلة: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:77]، أجمل من الكوكب وأشد نوراً، فهذا هو، إذاً البارحة شُبه لي، هو هذا الآن، {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77].
انظر: (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) إذاً: هو يعلم إلهه، ويعلم أن التثبيت بيده، {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً} [الأنعام:78] ثاني يوم الصبح {قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:78] لكنه أضاف صفةً أخرى، قال: {هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:78] إذاً: الوصف الذي يبحث عنه: ربٌ لا يغيب عن الوجدان، وهو أكبر، قال: (هذا ربي، هذا أكبر)، لم ير في الكون نجماً أكبر من الشمس، {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:78] وصل إلى قناعة كاملة بعد ثلاث ليالٍ فقط، و {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:78 - 79].