كان النبي عليه الصلاة والسلام يعامل أصحابه الأقربين منه معاملة أشد من معاملة الأبعدين من الأعراب وغيرهم، يرى مثلاً عبد الله بن عمرو يلبس ثوباً أحمر، فيعرض عنه، يلقي ابن عمرو السلام فلا يرد السلام عليه، ويعرض عنه، ويتغير وجهه عليه الصلاة والسلام.
فـ عبد الله بن عمرو المعلم المؤدب الملازم عرف وجه الخلل عنده بغير تنبيه من النبي عليه الصلاة والسلام، لما رأى نظر النبي عليه الصلاة والسلام يتوجه إلى الثياب الأحمر، فذهب إلى أهله فوجدهم يسجرون التنور فقذف الثوب في النار، وغيَّره وجاء، فأقبل عليه النبي عليه الصلاة والسلام وسأله: (ماذا فعلت به؟ قال: سجرت به التنور.
قال: هلا أعطيته بعض أهلك، فإنه لا بأس به للنساء) أي: أن الثوب الأحمر البحت الذي لا يخالطه لون لا بأس به للنساء، لكن لا يجوز أن يلبسه الرجال فإن قال قائل: إنه ثبت في الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس ثوباً أحمر) فهل هناك تعارض؟ نقول: لا؛ لأن الثوب الذي لبسه النبي عليه الصلاة والسلام كان يختلط به لون آخر لكن الأحمر غالب، ولذلك يقال: (أحمر)؛ لأننا نلغي القليل ونعمل بالأغلب، فمثلاً: لو سألك شخص: كم الساعة؟ وقد تكون الواحدة وثلاث دقائق، فتقول له: الساعة واحدة.
لماذا أهملت الكسر؟ لأنه لا قيمة له، والعرب درجوا على إهمال الكسر، إلا إذا كان في تعيينه فائدة، كما ذكر الله عز وجل عن نوح أنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وكان يمكنه أن يقول: تسعمائة وخمسين، لكنه لم يقل ذلك؛ لأن الكسر قد يلغى، فلما قال: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14] علمنا حقيقة الكسر في الأمر.
فلبس النبي عليه الصلاة والسلام الأحمر وفيه شيء من البياض لكن الأحمر غالب، فينسب الثوب إلى ما غلب عليه، إنما الذي نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام الأحمر (100%)، لا يخالطه لون آخر، فهذا لا يحل للرجال أن يلبسوه؛ لأن عبد الله بن عمرو كان ملازماً للنبي عليه الصلاة والسلام، ودائماً يأتيه، لكنه عليه الصلاة والسلام غضب وتغير وجهه ولم يرد عليه السلام.
بخلاف الأعرابي الذي يأتي من البادية، ولو ارتكب شيئاً يصل إلى درجة الكفر، فإن النبي عليه الصلاة والسلام يحلم ويصبر عليه؛ لأنه جاهل، ولا يعامله معاملة العالم الماكث عنده بصفة مستمرة يتعلم الهدى منه، كما في حديث خزيمة بن ثابت عند النسائي وأبي داود وغيرهما، قال: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم قعوداً - الجمل الصغير- لرجل أعرابي، فقال: بعني جملك يا أعرابي.
قال: بكم؟ قال: بكذا -وإذا ذهبنا إلى المدينة أعطيناك الثمن- فجاء رجل من المسلمين لا يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام اشترى الجمل، فقال للأعرابي: بعني هذا الجمل.
قال: بكم؟ -وكان ينبغي للأعرابي ألا يبيع الجمل، يقول له: الجمل اشتراه النبي عليه الصلاة والسلام، لكن الأعرابي جاهل، ظن أن البيع لم ينعقد طالما أن الثمن لم يعجل، لاسيما وقد فرض هذا الرجل سعراً أعلى من الذي فرضه النبي عليه الصلاة والسلام، فطمع الأعرابي في الزيادة- فقال: بعتك الجمل.
فعلم النبي عليه الصلاة والسلام أن الأعرابي باع الجمل، قال: يا أعرابي! أو لم تبعني الجمل؟ قال: ما بعتك شيئاً.
قال: يا أعرابي! بل بعتني الجمل.
قال: ما بعتك، هلم بشهيد يشهد أنني بعتك.
فانبرى خزيمة بن ثابت الأنصاري وقال: أنا أشهد أنك بعته الجمل، فقال عليه الصلاة والسلام لـ خزيمة: بم تشهد يا خزيمة؟ قال: بتصديقك، أشهد أنك صادق لا تكذب، فهذا يدل دلالة قاطعة على أنك اشتريت الجمل من الأعرابي وهو من الكاذبين).
هل يمكن أن أحداً من الصحابة المقربين من النبي عليه الصلاة والسلام أرتكب مثل هذا، والرسول عليه الصلاة والسلام يتركه هكذا بلا عقوبة؟! هل يمكن أن يجرؤ أحد على أن يرتكب جزءاً من هذا؟! إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يعامل أهل البادية كما يعامل أصحابه المقربين منه؛ لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي).
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه ولله دره، ما كان أثقب نظره! - (إذا جادلكم أهل الرأي بالقرآن فخذوهم بالسنن) لأن السنة مبينة للكتاب، فهذا يبين ضرورة العلم بالسنة؛ لأنها كثيرة التفصيلات.