هذا الحديث من حجج أهل الحق والسنة في الرد على الخوارج والمعتزلة والمرجئة، فالمرجئة هم الذين يقولون: إن الإيمان قول فقط، فلو قال رجل: لا إله إلا الله محمد رسول الله ولم يعمل شيئاً من مقتضيات الإيمان كان مؤمناً، ويحتجون بالأحاديث الكثيرة التي قال فيها النبي عليه الصلاة والسلام: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة) قالوا: فهذه الأحاديث إنما علقت دخول الجنة على قول من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، فلم يذكر عملاً، فهؤلاء يدخلون الرجل الجنة بالقول فقط، وإن عمل جميع المعاصي!! وعلى النقيض من ذلك فإن الخوارج يخرجون الرجل من الجنة إلى النار إن فعل أية معصية.
وأهل السنة وسط دائماً، فيستحيل أن يكون الإيمان المنجي صاحبة قول دون عمل، وإذا كان الأمر كذلك فالزاني يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وآكل الربا يقول ذلك، بل وقاتل النفس يقول ذلك، إذاً إن كان القول فقط هو الذي يدخل الجنة فلم يدخل بعض أهل التوحيد النار بالذنوب والمعاصي التي يرتكبونها؟! بل بلغ القول ببعض هؤلاء المرجئة وبكل أسف نشر هذا الكتاب حديثاً وهو كتاب جزء صغيراً سماه مؤلفه (دش الأفكار على المقطوع لهم بالجنة والمقطوع لهم بالنار) وتستغرب منه أنه جعل فرعون من المقطوع لهم بالجنة، والقرآن الكريم في آياته الكثيرة يذم فرعون، هل يمكن أن يكون هناك رجل ينتسب إلى العلم من المسلمين يقول: إن فرعون في الجنة؟! قال: نعم.
والقرآن دل على ذلك!! قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] يقول: ففرعون قال الكلمة: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90] قالوا: فقد صرح بالكلمة والنبي صلى الله عليه وسلم علق دخول الجنة على من تلفظ بالكلمة وإن لم يعمل عملاً، وانظر إلى هذا الفهم المعكوس، مع أن الله تبارك وتعالى عقب على مقالة فرعون، قال له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] والآية واضحة جداً وصريحة، بل إن هذه الكلمة التي خرجت من فرعون فيها علو وكبر، فلم يقل: آمنت أنه لا إله إلا الله، وإنما قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]، أي: يأبى أيضاً أن يصرح بها حتى أثناء الغرق، فما قال: لا إله إلا الله، وإنما: {لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90].
فالله عز وجل يقول له: {آلآنَ} [يونس:91] أي: الآن وقد أدركك الغرق تشهد أن لا إله إلا الله؟! إن توبة اليائس لا قيمة لها، ولذلك جاء في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) أي: ما لم تخرج نفسه وهو يعاني سكرات الموت، إذا آمن وروحه تخرج فلا قيمة لهذا الإيمان، بل هذا إيمان اليائس، إنما إن كان الرجل يؤمل أن يرجع إلى الدنيا أو يؤمل أن يبرأ من مرضه ولم تظهر عليه علامات الموت التي لا يحس بها إلا المحتضر وحده، فإذا آمن ورجع وتاب تقبل توبته؛ لأنه يؤمل أن يرجع، أما اليائس الذي لا يؤمل في الرجوع فما قيمة توبته.
عندما فتشت في ترجمة هذا المؤلف وجدته صوفياً، فهذا ليس بغريب عليه، فقد وجد في هؤلاء الصوفية من قال مقولات أبشع من ذلك، كالقول بوحدة الوجود: وهي أن كل شيء تراه بعينك فهو الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وقائل هذا محيي الدين ابن عربي الذي كفره جماهير علماء المسلمين، وقد ساق الحافظ ابن حجر واقعة له في كتابه الفريد (إنباء الغمر بأنباء العمر) وهو كتاب سرد فيه حياة الأمة المسلمة في أيامه يوماً بيوم، حتى دون فيه غلاء الكتان والشعير والقمح، واحتجاج التجار وملاقاتهم مع الوالي، فسرد الشيء الكثير في هذا الكتاب، ويقول في هذا الكتاب: اختصمت أنا ورجل في شأن ابن عربي فقال لي: إنه ولي من أولياء الله، وقلت: إنه كافر! فقال الرجل: بل إنه ولي، قلت له: نتباهل، والمباهلة: أن يلعن الرجل نفسه إن كان من الكاذبين، قال الحافظ ابن حجر: فتباهلنا، فقلت: اللهم إن كان ابن عربي مؤمناً فالعني بلعنتك، وقال الرجل: اللهم إن كان ابن عربي كافراً فالعني بلعنتك، قال الحافظ ابن حجر: فما مرت عليه ثلاث ليال وكان قاعداً في ليلة مظلمة فمر شيء أملس من على قدمه فمات لوقته.
فهذا الرجل الذي يقول: إن فرعون من المقطوع لهم بالجنة أداه إلى هذا القول القبيح المخالف للقرآن الكريم أنه يزعم أن الإيمان قول فقط، وأهل السنة والجماعة وسط بين أهل البدع، يقولون: إن الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، ولذلك فهذا القيد الذي ورد في حديث أبي هريرة: (من قابلته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة)، ما قيمة هذا القيد: (مستيقناً بها قلبه)؟ يستحيل لرجل يستيقن أن الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له ثم يشرك به، ويستحيل على رجل يعتقد اعتقاداً جازماً أن الله تبارك وتعالى هو المشرّع وله الحكم والأمر ثم يحتكم إلى غيره، ويستحيل على رجل مس الإيمان قلبه أن يعصي الله تبارك وتعالى مستمرئاً للمعصية، هذا كله مستحيل؛ لذلك هذا الحديث رد على هؤلاء، وعلى أولئك الذين يكفرون جماهير المسلمين بالمعاصي.
وفي هذا الحديث من الفوائد الشيء الكثير، فمنها أيضاً: