حكم القيام للداخل

(قال: وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاني الناس أفواجاً أفواجاً يهنئونني بتوبة الله عليَّ، حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله فصافحني وهنأني، والله ما قام إليَّ من المهاجرين غيره، ولست أنساها لـ طلحة) ثلاث مسائل في قوله: (فقام إلي طلحة فصافحني وهنأني): الأولى: قوله (فقام إليَّ) فهل يشرع القيام للداخل؟ القيام للداخل منه ما هو مشروع ومنه ما هو محرم، فالمحرم هو الذي يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً)، وفي الرواية الأخرى: (من سرّه أن يتمثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار) فالرسول عليه الصلاة والسلام علّق عقاب هذا الرجل على محبته وسروره لقيام القادم له وهذا الحكم فيه مشكل؛ لأن المحبة والسرور مسألة قلبية، فمن أين لي أن أعلم أن هذا الإنسان يحب أو يسر بذلك؟ فهذا الحب والسرور محجوبٌ عني، وإذا علِّق الحكم بمثل هذا لا تستطيع أن تصل فيه إلى نتيجة.

فيقال: الجواب عن ذلك: أن الشارع إذا علّق العقوبة على أمرٍ قلبي، فمثل هذا ينصب عليه قرينة في الخارج تدلل على ذلك الذي حُجب في القلب، فأنت حينئذٍ تبني الحكم على القرينة التي في الخارج، وليس على قلب هذا الإنسان، والتفصيل الذي يوضح ذلك: (من سرّه) فلو أن شخصاً دخل وأنت لم تقم له فغضب فغضبه هذا ظاهر أم خفي؟ ظاهر فهذه هي القرينة التي بينت، وهذا الرجل لو كان القيام وعدمه يستوي عنده، أكان يغضب إذا لم تقم؟ لا، إذاً غضب هذا الإنسان لأنني لم أقم دلني على أنه ممن يحب أن يتمثل الناس له قياماً، فإذا نُصِب غضبه كقرينة خارجية حينئذ أستطيع أن أحكم عليه بهذا الذي ظهر منه على ما بطن من أمره، لذلك نحن ننصح إخواننا من المدرسين أن يمنعوا التلاميذ من القيام لهم إذا دخلوا الفصول، فهذه عادة جاهلية ليس فيها أي احترام، فالذي يقول: إن قيام التلميذ هذا دليل الاحترام ليس عنده فقه عن الشرع، ولا وسائل الاحترام، فالاحترام ما كان يوماً في القيام، ولما يعاقب الأستاذ التلميذ الذي لم يقم؛ فهذا ممن ينطبق عليهم الحديث: (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، فلولا أن جلوس هذا التلميذ ساء هذا الأستاذ لم يعاقبه، وفي كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري، وصححه الإمام الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه قال: (ما كان في الدنيا شخص أحب إلى الصحابة رؤية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانوا يقومون له، لما كانوا يعرفونه من الكراهة في وجهه).

بعض الناس احتج بالحديث الذي في الصحيح: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (قوموا إلى سيدكم) ويرويه بعضهم بالمعنى رواية ليس لها أصل: (قوموا لسيدكم).

ويستدل على جواز القيام!! فنقول: إن هذه الرواية لا أصل لها لا في الصحيح ولا في غير الصحيح، إنما الرواية الصحيحة: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه).

وهذا الحديث له قصة، وهي: أن سعد بن معاذ رضي الله عنه جُرح في غزوة الأحزاب وكان جرحه ينزف دماً، فحملوه على الناقة، فلما وصلوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال للأوس: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه)؛ لأنه لا يستطيع النزول، فقد أصيب في أكحله، فهم يعينونه على النزول، إذاً الحديث ليس فيه دليل على جواز القيام، وقد يقولون: إن الرسول عليه الصلاة والسلام قام لـ زيد بن حارثة كما عند الترمذي وحسّنه: (أن زيد بن حارثة استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فقام إليه يجر إزاره) نقول: إن القيام للداخل القادم من سفرٍ يشرع، وقد يكون القيام أيضاً لحالة أخرى، وهو أن تستقبل ضيفك فتجلسه، كما صح أن النبي عليه الصلاة والسلام: (كان إذا دخلت عليه فاطمة قام إليها فأجلسها مكانه).

إذاً: القيام المنهي عنه هو القيام على سبيل الإعظام والتكريم، ومما أذكره في هذا المقام ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في ترجمة الإمام العلم المفرد علي بن الجعد، قال علي أرسل المأمون إلى تجار الجوهر في بغداد) المأمون هو أمير المؤمنين ويريد أن يشتري ذهباً، بمعنى أنه لن يشتري له شيئاً هيناً، (فأرسل للتجار وناظرهم) أي: على السعر، وبعد أن ناظرهم قام وقضى حاجته، ورجع فدخل المجلس فقاموا جميعاً إلا علي بن الجعد -وعلي بن الجعد إمام كبير من تلاميذ شعبة بن الحجاج، ومن مشايخ البخاري وغيره- لم يقم؛ لأنه من أهل العلم، ويعرف أن القيام لا يجوز، فلما قاموا جميعاً وهو لم يقم، غضب المأمون وناداه فقال: ما حمل الشيخ على ألا يقوم كما قام الناس؟ قال: أجللت أمير المؤمنين لحديث عندي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وما ذاك؟ قال: حدثني المبارك بن فضالة قال: سمعت الحسن -أي: البصري - يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل الرجال له قياماً فليتبوأ مقعده من النار) قال: فأطرق المأمون ساعة في الأرض ثم قال: ما ينبغي لنا أن نشتري إلا من هذا الشيخ قال: فاشترى مني في ذلك اليوم بثلاثين ألف دينار، فصدق في علي بن الجعد قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].

فتعظيمك لأمر النبي عليه الصلاة والسلام يعطي لك الهيبة في قلب مخالفك فضلاً عن موافقك، فلا تتصور أنك إذا عظّمت الله ورسوله أنك تُحتقر، أبداً والله، فالمخالف يعظِّمك، ولكنه لا يظهر هذا التعظيم، لماذا؟ لأنه يريد أن يعاندك نكاية فيك، الذي يقول الحق له وعليه يجعل الله تبارك وتعالى له من المهابة في قلوب الناس ما لا يجعله للذي يرضي الناس بسخط الله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015