إذاً: هجر أهل المعاصي مشروع، وهجر أهل البدع آكد في الشرع من هجر أهل المعاصي؛ لأن المبتدع شر من العاصي، وأهل المعاصي أفضل من المبتدعة، والأفضلية هذه لا يتصور منها مشروعية الفعل، لا.
وهذا يشبه قول الدارقطني في أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، لما سئل عنه وعن بقية أصحابه قال: (أعور بين عميان) فهذا ذم، ولكن عن طريق المدح، فالمقصود: إن كلاهما شر ولكن هذا أخف في الشر، وهذا هو المقصود.
لماذا؟ لأن أي إنسان يرتكب المعصية يعلم أنها معصية، ومهما كابر وأظهر أن هذه ليست معصية، فهو من قرارة نفسه يعلم أنها معصية، كيف لا، وقد فطر على التمييز بين الحلال والحرام! وقد ذكر بعض العلماء -وهو يتكلم عن هذه المسألة ويشرح حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرام بين) - أنه مهما ادعى إنسان أنه لا يدري فهو كاذب؛ لأن الرسول قال: (بين) ومتى يعذر الإنسان؟ إذا دخلت المسألة في الشبهات، والتبست عليه ولا يدرى أهي حلال أم حرام، كما في المثل المشهور الذي تعرفونه: وهو أنك إذا وضعت للقط قطعة لحم أكلها بجوارك، أما إذا خطفها فإنه يفر.
فلماذا يفر إذا خطفها؟ لأنه يعلم أنه خاطف سارق، إذاً: أي إنسان مهما كابر فهو يعلم أنه على معصية، بخلاف المبتدع، فإنه يرى أنه على صواب، ويرى أن البدعة هذه هي من الدين، وأنه يتقرب إلى الله بها، فعندما تقول له: اترك ما أنت عليه من البدعة، يقول لك: لن أترك ديني، ويأبى.
لذلك قال علماؤنا كـ سفيان الثوري وغيره: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها، والمعصية يتاب منها.
كان هناك ولد حاضراً في درس فسمع الفتوى ما هو حكم الشرع فيما يفعله بعض المسلمين بين التراويح من قراءة (قل هو الله أحد) ثلاث مرات؟ فقلت: هذه بدعة، وأتيت بالأدلة على أنها بدعة، فهو ذهب وبلغ ذلك لأبيه -والرجل رأس البدعة في بلده، وهو الذي يتزعم هذا- فلم يتمالك نفسه وجاء في موعد الدرس القادم، وقال: أنت أفتيت ابني بكذا وكذا؟ قلت: نعم، قال: قراءة القرآن بدعة؟ ما الذي جرى؟ هل: ارتكبت حراماً؟ فقلت له: وهذا الكلام الذي سأقوله، لو أنك حفظته وألقيته على أي مبتدع لألزمته الحجة بكلامه هو، إما أن الرسول صلى الله عليه وسلم فاته شيء من الخير، وإما أنه صلى الله عليه وسلم قصر في البلاغ، هذا بعد أن تستنطقه على ما يفعل، وتقول له: أعندك دليل صحيح يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك؟ إما أن يقول: نعم، وحينئذ يقال له: إن كنت مدعياً فالدليل، أو ناقلاً فالصحة.
نريد دليلاً صحيحاً، وهو: لا يستطيع أن يأتي به أبداً، وإما أن يقول: لا، فلو قال: لا فحينئذ تقول له: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك الشيء فإما من اثنتين: إما أن يكون خيراً فات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يقول لك: حاشا رسول الله من ذلك! أو أنه قصر في البلاغ، وهذه لا يقولها أبداً.
ثم بعد ذلك تسأله هل الذي أنت تفعله الآن خير أم شر؟ فإذا قال: خير، فقد أقر بأن النبي صلى الله عليه وسلم فاته هذا الخير، وإذا قال: شر فحسبه شهادة على نفسه أنه يفعل الشر، وإذا قال: لا أدري، فهناك جواب آخر، تقريعي وهو: كيف تفعل شيئاً وتتقرب به إلى الله، وليس عندك عن صاحب الشرع منه برهان؟!! فلن يستطيع حينئذ الرد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهانا أن نعبد الله إلا ببرهان، ولذلك قال العلماء في القاعدة المتفق عليها بينهم: (الأصل في العبادات المنع حتى يرد دليل بالإذن، والأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد دليل في التحريم)؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29] والعبادات على العكس؛ لأنك لا تدري مالذي يحب الله وما الذي يكرهه، وربما تتقرب إلى الله بما يبغضه وأنت لا تدري، وقد قال الله تبارك وتعالى لطائفة من الصحابة: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] فأنت لا تدري ما الذي يحبه ربك أو الذي يبغضه، ونافذتك على معرفة هذا هو الوحي.
فلا تتقدم بين يدي الله ورسوله بفعل شيء أو بقول شيء إلا ببرهان.
فلما جاء هذا الرجل فقال: لماذا قراءة (قل هو الله أحد) بدعة؟ وهي تعدل ثلث القرآن، فكيف آثم بقراءتها ثلث القرآن؟! فقلت له: ما رأيك إذا عطست أنت الآن فقلت: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؟ ما رأيك؟ قال: لا.
قلت: لماذا؟ قال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله)، أو (الحمد لله على كل حال)، فقلت: والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم مستحبة؟ وقد قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] فما المانع أن تفعل شيئاً مستحباً؟ فقال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقلها، قلت: هذا عين الجواب، وأنا أمهلك شهرين حتى تأتيني بدليل ولو ضعيف في هذه الجزئية، فقال الرجل، وهنا الشاهد: (أنا لي ستون سنة مغفلاً)، وهذه هي المشكلة، فاستصعب أن يسلِّم بأنه مغفل، ولو أنه سلم أنه جاهل لأجر؛ والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يا عائشة! إن كنت أذنبت بذنب فاستغفري الله، فإن العبد إذا أذنب فاعترف بذنبه فتاب تاب الله عليه) لا بد أن تعترف، وما المانع؟ فكل إنسان فينا جاهل في جزئية أو أكثر، ونحن جميعاً نموت ونحن مدينون بالجهل، وما هناك إنسان قط مات وقد عرف كل شيء في الشرع، فضلاً عن الدنيا، فلماذا الحرج؟!! إن الصحابة كانوا يعترفون ويقولون: (كنا ضلالاً فما عرفنا الهدى من الضلالة حتى جاءنا الرسول صلى الله عليه وسلم)، فالرجل لم يسلم بذلك وهذه هي مشكلة المبتدع، لا يسلِّم لظهور الحق بجلاء، لذلك قتل الجعد بن درهم على بدعته الشنعاء وصبر على القتل ولم يرجع، لما قال: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، وهذا مضاد لصريح القرآن، وقد جيء به واستتيب، فلم يرجع، فحبسوه حتى جاء عيد الأضحى، وخطب الوالي آنذاك خالد بن عبد الله القسري وقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم؛ لأنه يزعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، ونزل فذبحه في أصل المنبر، وشكر علماء المسلمين ذلك له، أنه ذبح هذا الضال.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى رخص للإنسان أن يقول كلمة الكفر لينجو بحياته، فقال تبارك وتعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل:106] فالذي عليه اللعنة والغضب، هو الذي شرح صدره بالكفر، ولكن إذا رأيت أنك ستقتل فتكلم بكلمة الكفر طالما أن قلبك مستقر ومطمئن بالإيمان، فإذا كان الإنسان رخص له أن يستنقذ حياته من القتل بأن يتكلم بكلمة الكفر، فكيف بهذا المبتدع لم ينقذ حياته، وكان يمكن أن يقول: أنا تبت إلى الله؟ وربما من الداخل يبطن الكفر الصريح، ويستنقذ حياته بإظهار الإسلام، فيصير دمه وماله وعرضه مصوناً بإظهار كلمة الإسلام، والجعد لما رأى أنه سيقتل يقيناً، لماذا لم يقل أنا تبت؟ لأنه يعتقد أن البدعة دينه، وقد ناظره علماء المسلمين الثقات الجهابذة الكبار، ومع ذلك لم يرجع، بينما العاصي يمكن أن يرجع ويتوب.
مرة كنت أخطب الجمعة في القاهرة، وتكلمت عن الرجم، وأن الرجم ورد في السنة، وهناك آية في نزلت القرآن قبل ذلك ثم نسخت ورفعت، كما هو معروف من الأحاديث الصحيحة، وذكرت أن حد الزاني المحصن أنه يرجم بالحجارة، ويحفر له حفرة في الأرض حتى لا يفر ثم يرجم حتى الموت، فهذا هو حد الزاني المحصن الذي تزوج ثم زنى بعدما تزوج.
وبعد الخطبة والدرس بينما أنا خارج من المسجد وجدت رجلاً كبير السن عمره يقارب السبعين عاماً وكان يرتعد، فقلت: هذا الرجل كبير وأعصابه تعبانة فبالتالي هو يرتعد، وكان كذلك، فانتحى بي جانباً وسألني، قال: أنا رجل عشت عمري وأنا أزني، وأول مرة أسمع هذا الكلام، وعندما سمعته كنت أريد أن أخرج من المسجد، لأنك تقول بأنه يرجم، قال: فذهبت إلى البيت، ولكني لم أستطع الجلوس، ولا الأكل ولا الشرب، فرجعت مرة أخرى ماشياً، فقال: هل لي من توبة؟ فالمعصية معروفة لأي عبد في الدنيا أنها معصية، لذا يستحيل أن تكون حلالاً عنده، ولا يستطيع أن يكابر بخلاف البدعة.