الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (بينما رجلٌ يمشي في أرض فلاة إذ سمع صوتاً في سحابة يقول: اسق أرض فلان.
فأفرغ السحاب ماءه في شرجة من شراج ذلك الوادي، فذهب ذلك الرجل الذي كان يمشي إلى المكان الذي أفرغ السحاب ماءه فيه، فرأى رجلاً معه مسحاة يُمهد مجرى للماء حتى يذهب إلى بستانه أو إلى أرضه، حتى استوعب الماء كله، فذهب إليه وقال: السلام عليك يا فلان -باسمه الذي سمعه في السحاب- فقال: وعليك السلام، من أين عرفت اسمي؟ قال: إني سمعتُ صوتاً في سحابة يقول: اسق أرض فلان، فأفرغ السحاب ماءه عندك فماذا تصنع؟ قال: أما قد قلت لي ذلك فإني أنتظر ما يخرج من الأرض فأقسمه إلى ثلاثة أقسام: قسمٌ أتصدق به، وقسمٌ آكله أنا وعيالي، وقسمٌ أرده في بطنها) -أي: بذراً في باطن الأرض حتى يخرج مرةً أخرى-.
هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي قصها علينا النبي عليه الصلاة والسلام من قصص الأقدمين، وهو يشتمل على ثلاث فوائد، وكل فائدة تشتمل أيضاً على فوائد: الفائدة الأولى: فضل الصدقة.
الفائدة الثانية: فضل النفقة على العيال.
الفائدة الثالثة: الأخذ بالأسباب وعمارة الأرض.
أما الفائدة الأولى فقد قال الرجل: (فإني أتصدق بثلثها).
وقد وردت في فضل الصدقة أحاديث كثيرة نقتصر على بعضها.
وأصل الصدقة مأخوذة من الصدق، ولهذا يلزم المتصدق أن يكون صادقاً، فإن كان كذلك فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله يقبل الصدقة بيمينه، ثم يربيها للعبد كما يربي أحدكم فلوه)، والفلو: هو المهر، فكما أنك تربي فرسك فيكبر على عينك -ولله المثل الأعلى- فإن الله عز وجل يأخذ الصدقة بيمينه فيربيها للعبد حتى تصير كأمثال الجبال! وهناك كثير من العباد يفاجئون بمثل هذه الحسنات التي ما كانوا يتوقعونها، يتصدق بصدقة وهو مخلص فيها ثم نسيها، فيفاجأ هذا الرجل بجبال من الحسنات من أين هذه الجبال؟! إنها من الصدقة التي وضعها يوماً ما في يد مسكينٍ أو فقيرٍ أو معول ونسيها: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:75]، في كتابٍ عند الله تبارك وتعالى.