الإمام البخاري رحمه الله روى هذا الحديث عن شيخين له: الشيخ الأول هو محمد بن سنام.
والشيخ الآخر هو إبراهيم بن المنذر.
لكن بين رواية الشيخين فرق: الفرق الأول: أن رواية محمد بن سنام عالية، ورواية إبراهيم بن المنذر نازلة، وأشرف أنواع العلو أن يقل عدد الوسائط بينك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: الإسناد فيه عال ونازل، العالي أنك تصعد إلى فوق، ولنفترض أن هذا القلم إسناد، فهذا طرفه الأول، وهذا طرفه الآخر، هنا الإمام البخاري في هذا الطرف، والطرف المقابل صحابي، فالإمام البخاري عندما يقول: حدثني محمد بن سنام، هنا الإمام البخاري الطرف الأسفل، وهنا في العلو الصحابي على أساس أن الزمان نازل، فالإمام البخاري متأخر، والصحابي هو أعلى طبقة في السند، وينقسم هذا السند إلى فترات زمنية تسمى طبقات، ولنتخيل أن هنا -مثلاً- طبقة، وهنا طبقة، وهنا طبقة، وهنا طبقة، فالإمام البخاري عندما يقول: حدثنا محمد بن سنام، حدثنا فليح بن سليمان، وبعد ذلك هلال بن علي ثم عطاء بن يسار، ثم أبو هريرة، فهذا اسمه علو كلما صعد إلى فوق.
السند الأول عندنا فيه محمد بن سنام، ثم فليح بن سليمان، وبعده هلال بن علي، وبعد ذلك عطاء بن يسار، وبعد ذلك أبو هريرة إذاً: بين الإمام البخاري وبين النبي عليه الصلاة والسلام في السند الأول خمسة رجال.
السند الثاني: قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا محمد بن فليح قال: حدثني أبي عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ستة.
فيبقى السند الأول أعلى من السند الثاني؛ لأن البخاري نزل فيه درجة، فأشرف أنواع العلو أن يقل عدد الوسائط بينك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلما اقتربت من الضوء ومن المصباح كان أفضل، وكان المحدثون يسعون إلى تحصيل هذا النوع من العلو مهما كلفهم من الجهد والمال.
قيل لـ يحيى بن معين في مرض موته: ما تشتهي؟ قال: بيت خالٍ، وإسناد عالٍ، فالإسناد العالي مطمح للمحدثين؛ لأنه يقترب من الرسول عليه الصلاة والسلام، وكانوا يرحلون الفراسخ البعيدة لتحصيل السند العالي، لكن علو الإسناد مشروط بصحته، وإلا فالإسناد الصحيح النازل خير من الإسناد العالي الضعيف، والعلماء أحياناً كانوا يتجاوزون عن هذا الشرط في الأحاديث العالية من باب الإغراب الذي كانوا يعدونه للمذاكرة.
فالمحدثون كان لهم مذاكرات يأتون فيها بكل غريب وعجيب ومنكر، لأجل أن يغرب بعضهم على بعض، وليس المقصود أن يحتجوا بالحديث في إثبات حكم شرعي، لا.
فهذه الأسانيد الغريبة العالية من منح العلم، ما كانوا يحتجون بها في دين الله عز وجل ولا يأخذون منها الأحكام ولا الآداب، إنما كانوا يدللون على حفظهم وعلى رحلتهم وعلى سعة علمهم بمثل هذا النوع من العلم.
الإمام البخاري رحمه الله أورد هذا الحديث في كتاب الرقاق بالسند العالي، وسنبين لماذا نزل الإمام البخاري في السند الآخر.
قال: حدثنا محمد بن سنام قال: حدثنا فليح -ثم ذكر حرف الحاء، وهذا الحرف مأخوذ من كلمة (تحويل) فهو فن ابتكره المحدثون يساوي الاختزال في العصر الحديث- وحتى أبين لك كيف اختصر الإمام البخاري السند، أسرده لك بكامله: قال: حدثنا محمد بن سنام قال: حدثنا فليح بن سليمان قال: حدثني هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: ويسوق المتن كله، وبعد ذلك يبتدئ من جديد فيقول: وحدثني إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا محمد بن فليح قال: حدثني أبي قال: حدثني هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال.
فحتى يعفي نفسه من هذه الإعادة يذكر السند الأول بالمتن، أو يذكر السند الأول كله، وبعد ذلك يذكر السند الثاني بالمتن، وهذا للاختصار، والاختصار في التحويل يبدأ من عند الراوي المشترك في السند.
فالإمام البخاري اختصر فقال: حدثنا محمد بن سنام حدثنا فليح وحدثنا إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح عن أبيه.
يعني: عن فليح فالراوي المشترك فليح، ولو وضع حرف الحاء في موضع آخر غير هذا الموضع لكان غلطاً.
إذاً: أنا لو أريد أن أختصر اختصاراً آخر، سأقول: قال البخاري: حدثنا محمد بن سنام وبعد ذلك أكتب (ح) وبعد ذلك أقول: حدثني محمد بن إبراهيم بن المنذر قال: حدثني محمد بن فليح كلاهما عن فليح قال: حدثني هلال بن أبي ميمونة.
والإمام البخاري نادراً ما يحول، والإمام مسلم أكثر منه تحويلاً، والسبب أن الإمام مسلم رحمه الله يكثر من ذكر الأسانيد للحديث الواحد بخلاف البخاري، فأول حديث في صحيح مسلم ذكر له أسانيد كثيرة، فمع كثرة الأسانيد يحتاج إلى حرف التحويل، والأسانيد المكررة عند الإمام البخاري قليلة، ليست كما هي عند الإمام مسلم رحمه الله، وهلال بن علي هذا هو هلال بن أبي ميمونة وهو هلال بن أبي هلال، كل هذه الأسماء الثلاثة إنما هي لرجل واحد.
مداخلة: فائدة تحويل سند الحديث؟
صلى الله عليه وسلم الله أعلم.
مسألة التحويل هذه مسألة فن، الإمام البخاري لم ير حاجة إلى ذلك، لكن أنت لو حولت من بعد محمد بن سنام جاز لك ذلك وربما الإمام البخاري لم يحول، لأنه لو حول بعد محمد بن سنام سيكون التحويل قيمته قليلة فهو راوٍ واحد فقط، لأنه إنما نحول إذا كثر عدد الشيوخ فخشينا الالتباس، فهو لو حول من بعد محمد بن سنام يبقى التحويل ليس له تلك القيمة.
مداخلة: هل هناك فرق بين أدوات التحل؟ الجواب: بالنسبة لأدوات التحمل: (حدثنا) و (حدثني)، فالعلماء يقولون: إن (حدثنا) تكون من لفظ الشيخ، وذلك إذا قرأ الحديث بنفسه تبقى أنت كمستمع تقول: (حدثنا)، وإذا قرأه رجل على الشيخ وهو يسمع ويقر تقول أنت: أخبرني، لكن هذا مجرد اصطلاح، وقد اتفق العلماء على أنه لا فرق بين (حدثنا) و (أنبأنا) و (أخبرنا)، فكلها بمعنىً واحد.
ولفظ (حدثنا) بالجمع إذا الشيخ هو الذي قرأ وسمع أكثر من واحد، أما إذا الشيخ حدث رجلاً على انفراده فيقول: حدثني، هذا هو المشهور عند جماهير العلماء.
ولا فرق عند العلماء ما بين أن يقرأ الشيخ من لفظه، أو أن يُقرأ على الشيخ وهو يسمع، فالقراءة على الشيخ وهو يسمع تُسمى عرضاً، أي: أن التلميذ عرض على الشيخ حديثه فأقره، وحصل خلاف ما بين أهل العراق وأهل المدينة في مسألة العرض والسماع، فكان أهل المدينة يرون أن العرض مثل السماع، وكان أهل العراق يقولون: لا.
بل ما كان من لفظ الشيخ يكون أرفع من العرض، فالإمام مالك رحمه الله رد عملياً على أهل العراق بأنه لا يقرأ الموطأ على أحد، إنما يقرأ عليه وهو يسمع؛ ولذلك حديث مالك في صحيح مسلم كله عرض، ما جاء من طريق يحيى بن يحيى عن مالك في صحيح مسلم كله عرض، يقول مسلم: حدثني يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، هكذا في صحيح مسلم، يعني: أنه أخذ الحديث عرضاً.
وقال إبراهيم بن سعد وهو أحد أئمة المدينة: يا أهل العراق! لا تدعون تنطعكم! العرض مثل السماع.
وبالغ بعض أهل المدينة وقال: بل العرض أقوى من السماع، لكن العرض كالسماع وإن كان احتمال دخول الوهم في العرض أقوى من دخوله في التحديث المباشر، لأن الشيخ قد يسهو والتلميذ يقرأ عليه، وتدركه سنة أو نحو ذلك فلا ينتبه، فلا شك أن التحديث يمتاز عن العرض بمثل هذا، لكن المشهور والمعروف عند جماهير العلماء أن العرض والسماع كلاهما صيغة واحدة.
مداخلة: هل الكتابة مع الإجازة أقوى من السماع؟ الجواب: لا.
هذا خطأ بل التحديث أرفع أدوات التحمل، وهو أن يصرح الشيخ بلفظ التحديث، ربما يقول لك: الكتابة أحد أدوات التحمل، والإجازة أحد أدوات التحمل، فإذا اجتمعا هذا مع ذاك يبقى كأنه نور على نور، لا.
أقوى صيغ التحمل (حدثني) و (حدثنا) و (أنبأني) و (أنبأنا) و (أخبرني) و (أخبرنا)، وثم (قال لي)، فهي ملتحقة بحدثنا وحدثني، ولفظة (قال لي) أكثر من يستخدمها الإمام البخاري، يعني: لم أقف لأحد من الأئمة الستة على استخدام هذه العبارة إلا عند الإمام البخاري ذكرها في الصحيح قليلاً، لكنه أكثر منها في كتاب التاريخ الكبير.
وأحياناً يروي في التاريخ الكبير حديثاً يقول فيه: قال لي مثلاً قتيبة بن سعيد، ويكون روى هذا الحديث بعينه عن قتيبة في الصحيح لكنه قال: حدثني قتيبة، فالعلماء قالوا: إن لفظة (قال لي) عند الإمام البخاري هي بمنزلة: (حدثني)، أو (أنبأني) أو (أخبرني).
والطحاوي له رسالة اسمها: التسوية بين حدثنا وأخبرنا، يرد فيها على من يفرق بينهما ويقول: إن أخبرنا للعرض وحدثنا للقراءة.
وأيضاً من أدوات التحمل (عن) وهي من أدوات التحمل التي تحتمل ا