تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله

إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.

(كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد -كما تقول عائشة رضي الله عنها- حتى جاءه الوحي، فرجع إلى خديجة رضي الله عنها يرجف فؤاده وقال: (لقد خشيت على نفسي).

قالت: (كلا والله لا يخزيك الله أبداً) -وفي الرواية الأخرى: وهي في بعض نسخ البخاري - قالت: (كلا والله لا يحزنك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان امرأً قد تنصر، وقرأ وكتب الكتاب العبراني، فلما قص عليه النبي عليه الصلاة والسلام ما جرى له في غار حراء قال: هذا هو الناموس الأكبر الذي نزل على موسى عليه السلام، ثم قال: ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك، فقال عليه الصلاة والسلام: أومخرجي هم؟ قال: نعم، ما جاء رجلٌ بمثل ما جئت به إلا عودي) يقول أبو عمرو بن العلاء: ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال.

فالنبي عليه الصلاة والسلام لما جاء بدين الله عز وجل -وهو الإسلام- قال له ورقة هذه الكلمة التي تعد من أصدق ما قاله إنسان، جاء النبي عليه الصلاة والسلام فخالف كثيراً من أعراف العرب وأهواء الجاهلية، ولذلك رموه عن قوس واحدة، وجاء يقول لهم: (يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله؛ تفلحوا).

فأبت العرب أن تقول هذه الكلمة، ورضيت أن تدخل في حروب دمرت اقتصادياتها، وقتلت أشراف الناس فيها، وسُبيت النساء، وكان العرب أصحاب غيرة، إذاً هم فهموا معنى: لا إله إلا الله، وما معنى أن يقول الواحد منهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، لو كانوا لا يفهمونها كسائر جماهير المسلمين اليوم لقالوها، ولوفّروا على أنفسهم هذه الحروب المتطاولة، فقدوا كل شيء في هذه الحروب، فقدوا أنفس أنواع الرجال، فقدوا العقول الذكية الجبارة، وفقدوا أموالاً طائلةً كثيرة، وفقدوا نساءً وأولاداً وأطفالاً أيضاً كل هذا وهم يصبرون على منِّ الغلاصم ونهش الأراقم، ومتون الصوارم، والبلاء المتلاطم المتراكم، ولا يقولوا: لا إله إلا الله، لماذا؟ لأن هذه الكلمة معناها نبذ الأنداد التي كان الناس يعبدونها، معناها توحيد الكلمة: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:67].

كان العرب كما لا يخفى عليكم إن شاء الله تعالى يقرون بتوحيد الربوبية، ولا يجهلون أن الله هو الذي خلق الكون ودبر ورزق، وهو اللطيف الخبير، لكنهم أنكروا أن يكون إلهاً معبوداً: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] وما هو العجاب فيه؟ تفرد بالزرق تفرد بالخلق تفرد بالتدبير تفرد بالإحياء تفرد بالإماتة؛ فمناسب جداً أن يتفرد بالألوهية، تفرد بكل شيء، وينكرون أن يكون إلهاً، وجاء النبي عليه الصلاة والسلام بتقرير هذه الحقيقة، وكان ما كان مما أشرت إليه آنفاً من الحروب المتطاولة، فليتنا نفهم كلمة التوحيد كما فهمها أبو جهل! لو أن جماهير المسلمين اليوم فهموا كلمة التوحيد كما فهمها العرب الأوائل، حتى الذين ماتوا على الكفر منهم لتغير واقع المسلمين، أنت تقول وتردد خلف المؤذن يومياً: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.

أشهد: أرى؛ لأن الشهادة ضد الغيب، قال تعالى: {عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الزمر:46] فإذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله؛ كأنك تقول: أنا أراه، فإذا تحققت لديك هذه الرؤية فلا يستطيع قلبك أن يقوى على مشهد العصيان أبداً، وفي الحديث: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله! أوصني، قال: أُوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من الرجل الصالح من قومك) أنت لا تجرؤ على أن تأتي بالفاحشة أمام الناس؛ إنما العاصي يغلق الباب والنافذة، ويحسن الغلق، فإذا شعر أنه في مأمنٍ عصى ربه، أوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من رجلٍ من صالح قومك، قد يجرؤ المرء على أن يعصي الله أمام فاجرٍ مثله؛ لكن أمام صالحٍ لا.

فأنت إذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، كأنك تقول: أنا أراه، والدين على ثلاثة أنماط: الإسلام والإيمان والإحسان، فالإحسان أخص من جهة أهله، وأعم من جهة نفسه، يعني: تخيل الإسلام والإيمان والإحسان في دوائر ثلاثة متداخلة، أكبر دائرة هي الإسلام، والدائرة التي تليها في الصغر وهي بداخلها الإيمان، والدائرة التي تليها وهي بداخلها: الإحسان، فإذا خرج من دائرة الإحسان وقع في دائرة الإيمان، وإذا خرج من دائرة الإيمان وقع في دائرة الإسلام، وإذا خرج من دائرة الإسلام فلم يبق إلا الفضاء الواسع، وهو الكفر، فكل محسن مؤمن ومسلم، وكل مؤمنٍ مسلم وليس بمحسن، لا يشترط أن يكون محسناً، وكل مسلمٍ لا يُشترط أن يكون لا مؤمناً ولا محسناً، كلما كبرت الدائرة كانت أخص من جهة أهلها، وأعم من جهة نفسها، المحسنون من جهة أهلها أخص؛ لأنهم أقل الخلق، ولكن هو مؤمنٌ ومسلم، فهو أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أهله، كذلك الإيمان.

في حديث جبريل عليه السلام الذي رواه مسلم في حديث ابن عمر، ورواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنهم قال: (ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه) هو هذا معنى أشهد: أي أرى، أن تعبد الله كأنك تراه، ولكن ذلك متعسر، فإن لم تكن فإنه يراك.

إن عجزت أن تكون محسناً في غاية الإحسان كأنك ترى ربك، وأنا معتقد يقيناً أن المرء إذا كان محسناً لا يجرؤ على العصيان أبداً، لا يقوى قلبه على العصيان، وتأمل في الصيام، يحقق أكثر الناس مرتبة الإحسان.

قال الله عز وجل في الحديث الإلهي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به) ونحن نعلم علماً ضرورياً أن الصيام للعبد، بدليل أنه إذا لم يكن عُذِّب، فالصيام للعبد أيضاً، فلماذا خصص الله هذه الشعيرة وقال: (إنه لي) ألم يمر بك يومٌ شديد الحرارة كمثل هذا الشهر والذي سبقه، وكادت عنقك أن تنقطع من العطش، وأنت وحدك في البيت، والماء المثلج أمامك وتحمل الماء، ويقترب الماء من فمك، ومع ذلك لا تجرؤ على الشرب، لماذا؟ مع أن المرء قد يرائي في الصلاة، وقد يرائي في الزكاة، وقد يرائي في الحج!! لكن في الصيام لا يستطيع أن يشرب مع شدة العطش، ووجود المقتضى الدافع على العصيان، وهو الانفراد وأن لا أحد معه، ومع ذلك لا يجرؤ على الشرب، هذا هو تحقيق مرتبة الإحسان، أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذا على سبيل التنزُّل.

وأشهد أن محمداً رسول الله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015