بدأ صيت الغلام ينتشر ويعرفه الناس، وكان يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من شر الأدواء، فسمع به جليسٌ للملك، وكان من أصدقائه وأحبابه، لكنه عمي، فلما سمع أن الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي من العمى؛ جمع له هدايا عظيمة، وفي هذا دليل على ما ورد في بعض الآثار، ولكن فيه نزاع والراجح ضعفه، والذي قال فيه: (إن الهدية تسل سخيمة الصدر).
فهذا الرجل جاء بهدايا عظيمة، وقال للغلام: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني، أي: إن رددت علي بصري فجميع الهدايا لك.
فبدأ الغلام يدعو إلى الله عز وجل، قال: إني لا أشفي أحداً ولكن يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته فشفاك.
هنا وقفة مهمة، وأولى الناس بالالتفات إليها الدعاة إلى الله عز وجل: راقب كلام الغلام! ولاحظ دقته في التعبير! قال: إني لا أشفي أحداً، ولكن يشفي الله تعالى، فإن آمنت به -لم يقل: شفيتك- دعوته فشفاك.
فهذا رجلٌ أمين على دعوته، لا يسعى لمجد شخصي، ولا يأكل بدينه دنيا.
فالغلام عليه الدعاء فقط، وبعد ذلك ليس له أي دخل في الموضوع، وهذا من الأمانة في سبيل الدعوة، فإنك إذا لاحظت أو رأيت أن أناساً غلو فيك ينبغي أن تردهم؛ حتى لا ينسبوا إليك ما لا يجوز لك، فإن النصارى كفروا بسبب الغلو، وكل غلو نهايته إلى الكفر، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرفض هذا الغلو.
ففي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة، إذ جاءه رجلٌ أعرابي فوقف على الباب، فقال: يا رسول الله! هلك الزرع والضرع، فادع الله أن يسقينا؟ قال: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم أصبعه السبابة إلى السماء وهو على المنبر) وهذا هو الذي يجوز للخطيب، فلا يجوز له أن يرفع كلتا يديه؛ إنما يرفع أصبعه بالتوحيد.
أما رفع اليدين، فقد روى مسلم في صحيحه عن عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه، أنه رأى أحد خلفاء بني أمية على المنبر يرفع يديه على المنبر ويدعو فقال: (قبح الله هاتين اليدين، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه أبداً، إنما كان يشير).
فأنت إذا كنت تخطب على المنبر وتريد أن تدعو، فعليك أن تشير بأصبعك السبابة فقط.
قال أنس رضي الله عنه: (فرفع النبي صلى الله عليه وسلم أصبعه السبابة إلى السماء، وقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا.
قال أنس: وكانت السماء مثل الزجاجة -صافية- فما إن دعا حتى تكاثر الغمام، وما نزل صلى الله عليه وسلم من على المنبر إلا والمطر يتحدر من على لحيته، وخرجنا إلى بيوتنا نخوض في الماء، وظللنا لا نرى الشمس جمعة).
وفي الجمعة التالية والرسول عليه الصلاة والسلام يخطب، جاءه الأعرابي فوقف على الباب، وقال: (يا رسول الله! هلك الزرع والضرع، فادع الله أن يحبس عنا الماء.
فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أشهد أني عبد الله ورسوله، -هذا الشاهد من الحديث: (أشهد أني عبد)، ليس لي دخل في الموضوع، أنا لم أصنع شيئاً- اللهم حوالينا لا علينا، اللهم على الضراب والآكام ومنابت الشجر) فكان حول المدينة مطر وفوقها شمس.
وعندما كسفت الشمس في موت إبراهيم ابن النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: كُسفت الشمس لموت إبراهيم؛ فأزعجه ذلك؛ لأنه أمينٌ على الوحي ولأنه بُعث ليعلم الناس دين الله ويعلقهم برب العالمين فعندها أمر أن ينادى: الصلاة جامعة.
واجتمع الناس فقال لهم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن إذا رأيتم ذلك فعليكم بالصلاة).
والداعية إلى الله عز وجل همه أن يربط الناس بالله لا بشخصه؛ فلذلك لابد أن يكون دقيقاً في ألفاظه، يذكر ما يفعله وينخلع مما لا يقدر عليه.
قال جليس الملك: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني.
قال: إني لا أشفي أحداً، ولكن يشفي الله تعالى؛ فإن آمنت به دعوته فشفاك -إذاً عمله الدعاء فقط-.
أما الباقي فكله لله تبارك وتعالى، كما قال إبراهيم عليه السلام وهو يعرف رب العالمين للناس، فقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:78 - 81].
فذكر ضمير الرفع المنفصل: (هو) في ثلاثة مواضع، وأخلى الموضع الرابع منه: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:81] لم يقل: (هو)، والقضية المرتبطة التي يشترك فيها العبد مع الرب تبارك وتعالى ذكر فيها ضمير الرفع هو: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78] لأنك ربما قلت: كنت ضالاً جاهلاً، وكنت غير ملتزم فهداني فلان.
والهداية يشترك فيها العبد والرب تبارك وتعالى، مع التباين بين هداية العبد وإرشاده، وهداية الرب التي هي استقامة على طريق الإسلام فعلاً.
فلما التبس الأمر بين العبد وربه قال: (هو) أي: لا غيره، هو لا غيره الذي يشفيني، {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:79] من الجائز أن يقول الإنسان: كنت سأموت لولا أن فلاناً أطعمني وسقاني.
نحن نقول: إن الله تبارك وتعالى يخلق فيك الشبع بسبب الطعام، لا أن كل طعام يشبع، فلربما أن الإنسان يأكل ولا يشبع، ويشرب ويحتاج إلى تناول الماء، فلو كان امتلاء المعدة النعمة بالماء والطعام دافعاً للجوع لما جاع آكل ولما ظمئ شارب، وهذا ليس معناه نفي الأسباب نفسها لا، الله عز وجل هو الذي يخلق الري في الشراب، ويخلق الشبع في الطعام.
يقول: إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:79] هو الذي يشبعني، كما في الصحيحين: (أن رجلاً كافراً جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اسقني يا محمد.
فحلب له لبن شاه، فشرب، ثم قال: اسقني، حتى شرب سبع مرات، ثم أسلم بعد ذلك، وجاء في إحدى المرات فقال: اسقني يا رسول الله؟ فحلب له لبن شاة، فشربها وحمد الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء).
فلما التبس هذا الأمر أكده إبراهيم عليه السلام بضمير الرفع، وأن الذي يشبع هو الله، ليس مجرد أنك تناولت الطعام؛ ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
(وما رميت -أي: وما أصبت- إذ رميت -لما أرسلت السهم- ولكن الله رمى).
ثم قال إبراهيم عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] انظر إلى الأدب! نسب المرض لنفسه؛ وأنه هو الذي أمرض نفسه، وكان مقتضى الكلام أن يقول: (وإذا أمرضني فهو يشفين)؛ لكن تأدباً لم ينسب المرض إلى الله، كما قال العبد الصالح: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، فنسب هذا إلى نفسه، ولما ذكر التفضل قال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} [الكهف:82].
نحن نتعلم طريقة عرض الأنبياء للدعوة إلى الله في كتاب الله عز وجل، لتعريف الناس بصفات الله تبارك وتعالى، فنتعلم الدقة في سلامة الألفاظ.
مرةً سمعت خطيباً يقول: وقد بلَّغنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسان رب العالمين!! هل الله سبحانه وتعالى له لسان؟! هل يجوز أن يقول الإنسان هذا في جنب الله تبارك وتعالى؟! صفات الله عز وجل إنما تتلقى بالسمع، وليس بالاجتهاد، لا يحل لك أن تأتي بصفةٍ لم تجدها في القرآن ولا السنة وتنسبها إلى الله عز وجل؛ لأن بعض الصفات قد تكون عندنا -معاشر المخلوقين- صفة كمال، لكن هي عند الله صفة نقص.
شخص وضع مذكرة عرض للقرآن الكريم، ثم لما وصف السموات والأرض، ووصف خلق السموات قال: إن الله عز وجل هو المهندس الأعظم!! هل يليق هذا الكلام؟ أين هو من قول الله عز وجل: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117]، انظر الفرق! بديع: ابتدعهما على غير مثال سابق.
صفات الله عز وجل لا يجتهد فيها إنما تتلقى بالسمع، فما لم يأت به القرآن، ولم يتكلم به النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يحل لنا أن ننسبه إلى الله تبارك وتعالى، وكان إبراهيم عليه السلام دقيقاً في كلامه حين قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80].
كثير من الناس يقول: كنت سأموت لولا أن الطبيب الفلاني شفاني.
وبعض المرضى إذا قال للطبيب: هل يوجد أمل؟ فقال له: نعم، يوجد أمل، اعتمد كلامه وكأنه كلام رب العالمين، وإذا قال له: إنك ستموت، أو ليس هناك أمل، فإنه يستعد للموت.
أحد إخواننا ذهب إلى الطبيب فأخطأ الطبيب في التشخيص وقال له: أنت مصاب بالقلب.
فخرج يمشي ورجلاه ترتعدان، حتى أنه ما استطاع أن ينزل من السلم، انظر صعد ضد الجاذبية وكان في قمة النشاط، والآن هو ينزل فما استطاع حتى أسندوه.
ثم ذهب إلى طبيب متخصص فقال له: من الذي أعطاك هذا التشخيص؟ قال: الدكتور فلان.
قال: ما رأيك أن قلبك أقوى من قلبه! يقول: والله نزلت أجري على السلم.
كثير من الناس يظن أن الطبيب هو الذي رفع العلة، ويقولون: هذا الطبيب ماهر، وهذا الطبيب ممتاز، وقد ذهبت إلى كثير من الأطباء فما وجدت طبيباً كهذا.
حسناً: لما هذا الطبيب يموت بنفس العلة التي يداوي الناس منها، فما تفسيرك لهذا الموضوع؟! أكيد الخلط، فلما وقع هذا الخلط أراد إبراهيم عليه السلام أن يبين أن الذي يرفع الداء هو الله، فلذلك أثبته بهذا الضمير: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80].
ولما جاءت القضية الرابعة التي لا خلاف بين الناس فيها، ولا تحتاج إلا تأكيد، وهي قضية الموت والإحياء؛ لأن هذه مسألة لا يجادل فيها أحد، ولذلك ما أكدها، هكذا فليكن الدعاة إلى الله تبارك وتعالى.
لما عرض الغلام المسأ