بعض المجلات التي هي على لسان حال بعض الطرق الصوفية كتب زعيم الطريقة الأولى مقالاً وافتتح به المجلة بعنوان (أيها القرنيون! هل فهمتم؟) والقرنيون نسبة إلى القرن، أي: أيها البهائم! أيها العجول! أيها الخرفان! هل فهمتم؟ ثم كتب عنواناً أصغر منه يقول فيه -فض الله فاه-: سلوك سبيل الأدب راجح على امتثال أمر الله ثم قال: (إن العلماء المحققين يقولون: إن سلوك الأدب راجح على امتثال أمر الله، وحجتهم في ذلك هو فعل الصديق الأكبر رضي الله عنه لما كان يصلي بالمسلمين (فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فصفق الصحابة؛ فنظر أبو بكر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم فرجع، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن اثبت فرجع؛ فصلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال له: يا أبا بكر! ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ قال: ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم) فهذا أبو بكر سلك سبيل الأدب وخالف الأمر.
هذه المقالة التي نتجوز في تسميتها شبهة؛ لأنها أضعف من ذلك، لكن هذه كفيلة بنقل جماهير كبيرة من العوام؛ لأن ظاهرها يدل على ما قال هذا المخذول، كأن الرجل عندما كتب ما علم أن في الزوايا خبايا، وأن في الناس بقايا، والله الذي لا إله غيره ما وقف أحد لأهل الحق إلا كسروا قرنه، فقرع من ندم سنه، ولا صافحهم أحد ولو كان من خطباء إياد إلا فضحوه، ولا قاتلهم مقاتل ولو كان من بقية قوم عاد إلا أكبوه على وجهه وبطحوه؛ لما لهم من الحجج البالغات، والأدلة النيرات، حق موجود مع أهله، والحق له قوة كامنة في ذاته كما قال تبارك وتعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء:18] الحق قذيفة، قوته، في كونه حقاً، مهما صرح به ضعيف.
قد تجد أهل الباطل والضلال عندهم جميع الإمكانات التي ينشرون بها ضلالهم، وتجد أهل الحق ضعافاً لا يملكون شيئاً، ومع ذلك يصل الحق إلى الناس ولا يصل الباطل بالرغم من الإمكانات؛ لأن قوة الحق في كونه حقاً، (بل نقذف) كأن الحق قذيفة، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء:18] وأصل الدمغ: هو شد الرأس حتى الدماغ، فإذا وصل الشج حتى الدماغ مات المشجوج أو هلك أو فني أو تلف، فإذا ما سلط الحق على الباطل زهق الباطل كما قال تبارك وتعالى: {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18] زاهق: أي تالف.
ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أرسل جيشه يقاتل، فجاءه الرسول بعد انقضاء النهار بالبشرى -بشرى الفتح- فقال له عمر: (متى بدأتم القتال؟ قال -مثلاً-: بدأناه في نحو الظهيرة.
ومتى فتح لكم؟ قال -مثلاً-: فتحنا بعد العشاء.
فبكى، وقال: باطل يقف أمام الحق هذه المدة! ما هذا إلا شيء أحدثته أو أحدثتموه) لأن الباطل زاهق، ليس له نفس؛ لأنه لا يملك مقومات الحياة، فكيف يقف باطل أمام حق نصف نهار، هذه عقوبة بشيء أحدثته أو أحدثتموه.
يقول الصوفي: (سلوك سبيل الأدب راجح على امتثال أمر الله).
هذه مقالة كافرة، يعني: أيها المريب إذا أمرك الله بأمر فرأيت الأدب على خلاف ما أمرك الله؛ خالف الأمر واسلك سبيل الأدب، أستغفر الله فإن ناقل الكفر ليس بكافر، كأن أمر الله خال من الأدب، كأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه أدب، ثم يحتج لهذه -ونحن نزهق باطله أيضاً- بفعل أبي بكر، ولكن نسوق الواقعتين لتروا الفرق بينهما، ولا يساوي بينهما إلا من طمس الله على بصيرته فأعماه.
الواقعة التي احتج بها رواها الشيخان من حديث سهل بن سعد: (أنه كان خلاف أو قتال في بني عمرو بن عوف، فذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع بعض أصحابه إليهم، فأذن بلال، فلما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى أبي بكر وقال: أقيم الصلاة؟ قال: نعم.
فأقام الصلاة، وتقدم أبو بكر وكبر تكبيرة الإحرام، وجعل يقول دعاء الاستفتاح، وفي أثناء قوله لدعاء الاستفتاح جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فصفق الصحابة، وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يلتفت في صلاته، فلما أكثروا من التصفيق؛ التفت، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يخترق الصفوف إلى الأمام، فرفع يديه فحمد الله، ثم نكص -أي: رجع- فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم إشارة معناها: اثبت.
لكنه رجع، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، ثم قال له: ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ قال: ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم).
هذه هي الواقعة، نحن نزهق باطل هذا الكاتب بواقعة أخرى لـ أبي بكر رضي الله عنه رواها الشيخان أيضاً: (أن النبي عليه الصلاة والسلام في مرض موته أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، فكان يصلي لهم إماماً، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة -وهذا في أواخر عمره عليه الصلاة والسلام- وجد في نفسه خفة، فأمر العباس وآخر أن يحملاه، فحملاه ورجلاه تخطان على الأرض، وكان أبو بكر رضي الله عنه قد صلى ركعة، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الثانية، فأراد أبو بكر أن يرجع، فقال له: اثبت؛ فثبت.
فصلى النبي صلى الله عليه وسلم جالساً بجانب أبي بكر) ما يقولون في هذه؟ كان أبو بكر سيئ الأدب عندما قال له: اثبت، فثبت؟ لو جاز أن نقول: ناسخ ومنسوخ؛ لقلنا: إن هذه الرواية ناسخة للأولى، لأن هذه كانت في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت أبو بكر وصلى إماماً، لكن ليس في المسألة ناسخ ولا منسوخ؛ لكن ما الذي جعل أبا بكر في المرة الأولى يرجع، وجعله في المرة الثانية يثبت ولا يرجع؟ في المرة الأولى لم يكن صلى شيئاً من الصلاة، فاستساغ أن يرجع، لكن في المرة الثانية كان قد أتى بركعة، فلم ير لنفسه جواز أن يرجع، إذ أنه قضى شطر الصلاة، هناك فرق بين الحالتين، بين هذه وتلك.
ثم إن الصحابي قد يفعل الشيء على خلاف ما يأمره به، ربما يكون في الأمر شيء أو أمر أو نحو ذلك، وهذا قاله الحافظ ابن حجر في شرح البخاري، قال: فلذلك لم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رجع ولم يمتثل الأمر.
كان أبو بكر يظن في ذلك الوقت -مثلاً- أنه لا يجوز لأحد أن يؤم النبي صلى الله عليه وسلم فرأى أن يرجع، فلهذا الظن لم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم، أو ربما كانت الأحكام لم تكن قد استقرت أو استقر كثير منها، يرى أن يرجع، ولم يكن عنده علم بأنه يجب أن يثبت، أو يستحب أن يثبت أو نحو ذلك؛ لذلك لم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم.
استمر الكاتب -وهو قد وضع هذه القاعدة ليتفلت من الإسلام كله؛ لأن الإسلام تكاليف، وأهل الزيغ والضلال لا يقدرون على تكاليف الإسلام، فيريد أن يفعل ما يمليه عليه هواه فيثبت هذه القاعدة- يقول: وعلى مقتضى القاعدة كذا.
نحن لم نسلم لك القاعدة أولاً، بل هدمناها، فلا تناقشني في الفرع فإن الأصل أعوج.