ولو وجدت عالماً يدرّس كتب الأدلة، سواء كانت كتباً متقدمة مثل الكتب الستة وما جرى مجراها، أو الكتب التي عنيت بجمع هذه الكتب مع حذف الأسانيد، مثل منتقى الأخبار للجد ابن تيمية، أو بلوغ المرام للحافظ ابن حجر، فإنك تجده يشرح الحديث ويستخرج منه عشرين حكماً في عدة أحكام مختلفة.
مثال ذلك: أول حديث في بلوغ المرام حديث أبي هريرة: (أن ناساً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر يُتوضأ به؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)، فقد ورد هذا الحديث في أبواب المياه، لكننا نستطيع أن نستخرج منه بعض الأحكام الأخرى التي لا تتعلق بالمياه، مثل: باب الصيد والذبائح؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الحل ميتته)، ويدخل هذا الحديث في أدب المفتي والمستفتي، ويستفاد منه جواب الحكيم، وهو أن يجيب المفتي بأكثر من سؤال السائل؛ لأن مصلحة المستفتي لا تتم إلا بهذه الزيادة.
فقد جاء بعض الصحابة رضوان الله عليهم وقالوا: يا رسول الله! إنا نركب البحر ويكون معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فسيكون
صلى الله عليه وسلم نعم.
توضئوا.
وهذا جواب كاف، لكن هل أجاب الرسول عليه الصلاة والسلام هكذا؟ لا.
بل قال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، مع أنهم لم يسألوا عن ميتة البحر، فلماذا زادهم هذه الزيادة في الجواب؟ عندما تقرأ في كتب أدب الفتوى والمفتي والمستفتي تجد هذا الكلام: (ولا ينبغي للمفتي أن يوسع الجواب على سؤال المستفتي لئلا يشوش عليه).
والظاهر أن قولهم هذا فيه تعارض مع هذا الحديث، فإن الحديث فيه زيادة على السؤال، لكن الذي يحل الإشكال هو في تتبع طرق الحديث، فقد ورد في بعض طرق هذا الحديث: أن هؤلاء الذين سألوا كانوا يصطادون اللؤلؤ، فقد يغيبون أيام في البحر، وقد ينفد زادهم، وقد يستشكلون ميتة البحر إذا أعملوا كتاب الله عز وجل، ولماذا نستبعد هذا وقد استشكلت ميتة البحر على واحد من العشرة المبشرين بالجنة، وأحد فقهاء الصحابة وهو أبو عبيدة بن الجراح، والذين كانوا يركبون البحر معه؟ فقد قالوا: أنها ميتة، وهذا الحديث رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله قال: (أرسلنا النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة -وهي غزوة سيف البحر، أو غزوة جيش الخبط- وأمّر علينا أبا عبيدة بن الجراح، وأعطانا جراب تمر، قال: فكان أبو عبيدة يعطينا تمرتين تمرتين، فلما أوشك التمر أن ينفد كان يعطينا التمرة فنمصها ونشرب عليها الماء، حتى نفد التمر، فكنا نأكل من ورق الشجر اليابس، قال: ثم رمى لنا البحر بدابة عظيمة يقال لها العنبر، وجلس منا ثلاثة عشر رجلاً في عينه، وكنا نأخذ الدهن من عينه بالقلال، وأتى أبو عبيدة بضلع من أضلاعه فأقامه، وجاء بأطول جمل، وركب عليه أطول رجل، فمر من تحته، فقال أبو عبيدة بن الجراح: ميتة لا تأكلوه -لم يكن مع أبي عبيدة إلا ظاهر كتاب الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، ولم يكن لديه دليل الخصوص، وهذا هو الواجب، فإذا وصلك دليل عام فلا تتوقف وتقول: سأبحث عن الخاص فربما خصص؛ لأن الأصل في الأدلة العموم، كما حرره الإمام الشاطبي في الموافقات، فإذا بلغك حديث عام أو دليل عام ولا تعرف له مخصصاً فلا تتوقف في الأخذ بالدليل العام؛ لاحتمال أن يكون ليس له مخصص، فتكون قد أهدرت العمل بالعام ولم تظفر بالخاص.
ثم قال: ولكننا جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، ونحن مضطرون فكلوا)، فعمل بآية أخرى وهي قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3]، فإذا كان مثل أبي عبيدة يستشكل ميتة البحر؛ أفلا يستشكلها أعرابي لا نعرف محله من العلم؟ فالرسول عليه الصلاة والسلام بثاقب نظره -وهو سيد المفتين- نظر إلى هذا الرجل فرآه استشكل شيئاً لعله لا يُستشكل، فإذا استُشكل هذا الشيء اليسير عليه، فمن باب أولى أن يستشكل الشيء الأعظم منه، فلذلك أفاده بهذا الجواب مع أنه لم يسأله عنه، وهذا ما يسميه العلماء: جواب الحكيم.
ولنأخذ مثالاً آخر: حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين، وهو حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وقال: (دلوني على أعلم أهل الأرض، فدلوه على راهب)، كلمة (راهب) إذا أطلقت يستشف منها العبادة أكثر من العلم، وهناك استشكال من أعظم أبواب الضرر، وهو الخلط بين العالم وبين الشبيه بالعالم، فإن كثيراً من العوام إذا رأوا رجلاً ذا لحية عظيمة بادروا إلى سؤاله، وربما يكون جاهلاً لا يعرف شيئاً قط، لكنه فعل ما افترضه النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن أطلق لحيته.
وهناك رجل خباز من بلدنا، لا يعلم شيئاً إطلاقاً، فسافر إلى بلد آخر، فدخل المسجد ليصلي الجمعة، وكان الخطيب في ذلك اليوم غائباً، فنظر الناس إلى من في المسجد فلم يجدوا إلا هذا الرجل صاحب السمت الجميل واللحية الطويلة، فقالوا: هذا خطيبنا اليوم، فطلبوا منه أن يخطب بهم، فصعد المنبر وضل يفرك يديه ويقول: اتقوا الله اتقوا الله وتلعثم كثيراً، وهو يتصبب عرقاً، وبعد أن انتهى من الصلاة قرر قراراً، ويا ترى ما هو هذا القرار؟ هل قرر أن يتعلم؟ لا.
بل قرر أن يحلق لحيته؛ حتى لا يقع في مثل هذه الورطة مرة أخرى!! فبدلاً من أن يقرر أن يتعلم، أو يحفظ خطبة واحدة في حياته يلقيها إذا وقع في مثل هذا الموقف، قرر أن يحلق لحيته!! فالناس يخلطون ويظنون أن كل صاحب لحية عالم صحيح أن اللحية فرض، ولا يجوز لمسلم أن يحلقها أبداً، وهذا بإجماع العلماء، ولم يخالف في هذا إلا الخالفون من المتأخرين الذين لا يخرقون إجماعاً ولا ينعقد بهم إجماع، والأئمة الأربعة على حرمة حلق اللحية، لكن اللحية ليست دليل العلم.
فعندما سأل هذا الرجل عن أعلم أهل الأرض قالوا له: اذهب إلى فلان الذي لا يفارق صومعته، والرجل عابد وليس عنده علم، ولو استشكل شيئاً من المباح فإنه يتركه؛ لأنه رجل ورع.
والأصل: أن تتورّع في نفسك ما شئت، لكن لا تنقل ورعك في الفتوى، فالفتوى إما أن يكون الأمر جائزاً أو غير جائز، وبعد أن تقول له: هذا جائز؛ قل له: وإن تورعت فهو أفضل، ولذلك فلا بد أن يكون المفتي عاقلاً ذكياً، مدركاً، صاحب فطنة، حتى يستطيع أن ينزل الفتوى على مقتضى حال المستفتي.
فذهب هذا الرجل إلى الراهب فقال له: إنه قتلت مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: قتلت مائة نفس وتريد أن تتوب؟! لا توبة لك، أنت في جهنم وبئس المصير.
وهذا العابد رجل جاهل؛ لأنه أمام رجل كان يذبح ضحاياه وليس في قلبه رحمة، ومع ذلك يجيبه بهذا الجواب، فعندما يكون الرجل بهذه المثابة يذبح ضحاياه، كان الأولى أن يقول له: تعال غداً حتى أبحث عن الجواب، حتى ينجو بنفسه؛ لأن الرجل سفاح ولا يتورع، فقد قتل تسعة وتسعين، فعندما أكمل به المائة فليس هناك أي غرابة، لاسيما وأنه قد أغلق عليه باب الأمل، فسيواصل إجرامه.
إذاً الراهب لم يكن ذكياً حين قال: ليس لك توبة، ولذلك قتله، فراح ضحية لسانه، ثم منَّ الله عز وجل عليه بنفس السؤال وقال: دلوني على أعلم أهل الأرض.
فدلوه على رجل عالم، فقال له: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم، ومن يحجب عنك باب التوبة؟.
الشاهد في الحديث قوله: (قال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم)، إلى هنا هذا جواب كافٍ، لكنه لا تتم توبته إلا بالزيادة التي لم يسأل عنها، وأخبره بها المفتي (قال: نعم.
ومن يحجب عنك باب التوبة؟) هذه الزيادة الأولى، والزيادة الأخرى: (اخرج إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوماً يعملون الصالحات فاعبد الله معهم)، فهو لم يسأله عن الخروج من بلده، إنما سأله سؤالاً واحداً فقط وهو: هل لي من توبة؟ ودائماً الذي يعصي الله عز وجل في أرض فإن العلماء ينصحونه أن يفارق هذه الأرض؛ لأنه إذا رأى مسرح الجريمة فربما يعتريه الشوق للرجوع إليها، وبالذات الذي ابتلي بداء عشق النساء، فإن العلماء ينصحونه أن يفارق تلك الأرض؛ لأنها مليئة بالذكريات مع عشيقته.
وهذا مثل ما كان يفعل قيس مجنون ليلى، كان إذا دخل القرية بعدما رحلت منها ليلى، يمشي مثل المجنون، ويقبل جدران القرية كلها، وهو يقول: أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا فمثل هذا إذا أراد أن يبرأ من داء العشق فلابد أن يفارق أرض العصيان؛ لأن الإنسان عنده حنين دائماً إلى الأرض التي شهدت ملاعب صباه.
فالعالم نصح ذلك العاصي نصيحة ذهبية؛ لأن العاصي لو بقي في أرض العصيان ربما يرجع إلى المعصية، ولذلك قال له: اخرج إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوماً يعملون الصالحات.
ومعنى هذا: أنه لا يوجد فيهم من يجاهر بالعصيان.
إذاً: هذا الرجل لن يستطيع أن يمارس المعصية فيهم، لذا كان من تمام النصيحة أن يأمره بالخروج، مع أن السائل لم يسأله عن هذا الأمر، وهذا هو ما يسمونه بـ (جواب الحكيم)، وهو أن يراعي المفتي مصلحة المستفتي.
ومنه أيضاً: (أن امرأة رفعت صبياً في الحج وقال: يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: نعم.
ولك أجر)، ولم تسأل المرأة: ألي أجر أم لا؟ وكان يكفي في الجواب أن يقول: نعم.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم لما يعلمه من محبة الناس لتحصيل الأجر ذكر ذلك ليكون حافزاً لها، وهكذا