إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها الإخوة الكرام! جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام الترمذي وابن ماجة وأحمد من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إنما الدنيا لأربعة نفر: فرجل آتاه الله علماً ومالاً، فهو يتقي الله فيه، يصل به رحمه، ويعرف لله فيه حقه؛ فهذا بأفضل.
ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله، فهو ونيته؛ فهما في الأجر سواء.
ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله، لا يرعى لله فيه حقه، ولا يصل به رحمه؛ فهذا بأخبث المنازل.
ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله، فهو ونيته؛ فهما في الوزر سواء).
هذا الحديث قسم الناس إلى طبقات أربع، لا يخرج رجل على الإطلاق من واحدة منها، هناك طبقة أساسية وأخرى تابعة، فالناس في الحقيقة طبقتان رئيسيتان: الطبقة الأولى: هي أفضل المنازل، والطبقة الثانية: هي أخبث المنازل، والرجل الثاني والرابع كلاهما تابع.
بأفضل المنازل على الإطلاق، فهو رجل آتاه الله مالاً وعلماً، فما الذي رفع الرجل الأول؟ إنه العلم، والرجل الثالث: بأخب المنازل لقد آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فما الذي انحط بهذا الرجل؟ إنه الجهل.
إذاً الممدوح في هذا الحديث هو العلم وليس المال، لذلك كان الرجل العالم الثاني الفقير بأفضل المنازل أيضاً، وهذا يدلك على أن صاحب المال غير ممدوح إلا إذا انضاف إلى هذا المال علم.
لا يشترط أن يكون الغني عالماً، ولو كان عالماً فبها ونعمت، ولو لم يكن عالماً فليتعلق بعالم.
إن المال وحده لا يمدح صاحبه بمجرده، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الحكمة -وفي رواية: القرآن، وفي رواية: العلم- فهو يقضي بها، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق) إذاً الرجل الثاني: (رجل آتاه الله مالاً) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وإنما ذكر صاحب المال بعد صاحب العلم؛ لأن المال لا يمدح إلا بعلم؛ ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام لما ذكر صاحب العلم لم يذكر معه شيئاً، قال: (رجل آتاه الله علماً) ولما ذكر صاحب المال قال: (ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق) فذكر هذا القيد (في الحق)؛ لأن العبد إذا سلط ماله على هلكته في الباطل كان مذموماً، من أين للرجل الجاهل الغني أن يعلم أن هذا حق أو باطل إلا بعلم؟! فإما أن يكون عالماً أو يتعلق بعالم.
إذاً الممدوح الأعظم في هذا الحديث هو العلم، ولله در علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما قال: (كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس بأهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو فيه).
لو رميت أي إنسان بالجهل احمر وجه من الغيظ حتى لو كان كذلك، عيره بأي شيء إلا الجهل، هذا مما يدلك على أن العلم ممدوح.
ومن شرف العلم أن يخلد ذكر صاحبه عبر القرون، أين الأغنياء أيام الإمام مالك وأيام الإمام أحمد وأيام الإمام البخاري؟ هل لهم ذكر؟ {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم:98]؟ إنما نحن الآن نذكر هؤلاء الأئمة أكثر من آبائنا وأمهاتنا، وكلما ذكرناهم ترضينا عنهم، هذه بركة العلم، لذلك قدمه الرسول عليه الصلاة والسلام.
والعلم ممدوح في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وقال تبارك وتعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:18] وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]، قال البخاري رحمه الله: قدم العلم على كلمه التوحيد؛ لأن الله عز وجل لا يعرف إلا بالعلم.
والعلم بحر لا ساحل له، يرده الناس فكل يأخذ على قدر ما طاقته، كل إنسان معه إناء يغترف من البحر على قدر الإناء الذي معه، هناك إنسان يرد على القرآن فلا يكاد يأخذ منه شيئاً، وهناك رجل يرد فيغترف منه الكثير، لذلك هناك فرق بين الذي يقرأ القرآن وهو عالم به والذي يقرأه هذاً.
مثلاً: من أوسع أبواب زيادة الإيمان، باب أسماء الله عز وجل وصفاته، كلما تدبرت هذا الباب كلما ارتقى إيمانك مع كل مرة تتدبر فيها، مثلاً اقرأ قوله عز وجل -وهذه الآية أولى الناس بها هم النساء-: {تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39].
الخشوع هو الذل سواءً كان في أهل النار، كما قال الله عز وجل: {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} [النازعات:9]، أو في المؤمنين المخبتين قال: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2] خاشعون: أي ذليلون.
وقال تعالى: {تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت:39] وكذلك المرأة التي لا تحمل تراها خاشعة ذليلة منكسرة؛ لأن مهنتها الأولى في الحياة أن تلد، تحمل وتضع، هذا بعد عبادة الله عز وجل، إذا لم ترزق المرأة بالحمل فإنها تكون في غاية الذل والخشوع، كالأرض تماماً: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت:39] فإذا أنزلنا عليها الماء -أي: حملت- اهتزت وربت، ترى البشرى على وجهها، وتحس هذه المرأة وتشعر بطعم الحياة، مثل الأرض تماماً.
وهذا مثل المرأة التي قالت لزوجها: مالِ أبي حمزة لا يأتينا غضبان ألا نلد البنينا تالله ما ذاك بأيدينا إنما نحن كالأرض لزارعينا نخرج ما قد يغرس فينا فالمرأة كالأرض تماماً {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39] وترى هذا المعنى جلياً واضحاً في أول سورة الحج، أي: الربط ما بين الأرض والمرأة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج:5] هي هذه المرأة والحمل {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:5 - 6].
فإذا قرأت المرأة هذه الآيات وتدبرتها على هذا النحو؛ ازداد إيمانها {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39] أحياها بعد أن كانت تحتضر كل يوم، فأحياها الله عز وجل، وأحيا أملها، وجدد رغبتها في الحياة لما حملت ووضعت.
فلما نقرأ القرآن على هذا النحو، تقرأه بقلب شاهد خاشع، فإننا سنخرج بمعان جديدة، وآلة ذلك: العلم؛ لذلك العلم ممدوح في ذاته، فأول رجل ممدوح على وجه الأرض بعد النبيين، وهو هذا الرجل الذي آتاه الله علماً ومالاً.
أول بركات العلم أنه يحيي قلبك ويسددك.
الرجل الثاني: الذي آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، وقد وصل إلى هذه المنزلة الرفيعة بالعلم.
لذلك أحسن اختيار من يتأسى به، فهذه من بركة العلم، إما الرجل الرابع الجاهل الذي لم يحصل الدنيا ولا الآخرة، لا علم ولا مال، لما أراد أن يقلد بسبب جهله اختار أسوء رجل، فمثله كمثل الرجل الذي ورد ذكره في الحديث الضعيف الذي رواه أبو الشيخ في كتاب الأمثال، وأنا أذكره ليس كحديث: (مثل الذي يسمع الحكمة فيأخذ شر ما فيها، كمثل رجل أتى راعي غنم، فقال: يا راعي الغنم! أعطني شاة ناوية -أي: سمينة- فلما رآه الراعي طماعاً، اختار له، فقال له: لا، أريد الأخرى.
قال: دونك الغنم، اختر ما شئت، فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم).
لما وكله إلى اختيار نفسه اختار الكلب، استسمنه فاختاره؛ لأنه وكله إلى اختياره هو.
فهذا الرجل الرابع لما أراد أن ينظر إلى من يتأسى اختار أشر رجل، أما صاحب العلم فقد اختار أفضل رجل؛ لذلك ما ضره أن يكون فقيراً؛ فقد رفعه الله بالعلم حتى صار بنيته مع صاحب العلم والمال.
الرجل العالم إذا آتاه الله المال وضع المال في موضعه، الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (آتاه الله علماً ومالاً فهو يتقي الله فيه: يصل به رحمه، ويرعى لله فيه حقه؛ فهذا بأفضل المنازل) فانظر كيف رتبها، قال: (يصل به رحم