فإن قلتَ -حيث أنك أثبت بطلان هذه القصة-: فما هو وجه تأويل قوله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52]، فهذا يبين أن الشيطان يلقي في بعض التلاوة، فهذه الجملة في إثبات القصة؟ سأقول لك: لو سلمت معك جدلاً أن القصة ثابتة؛ فتأويلها على غير ما تقرأ، مع أنها لم تثبت، لكن سلمنا جدلاً أنها ثبتت، فالذي اختاره ابن كثير وغيره كالحافظ ابن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ يقرأ قراءة متأنية يفصل بين الآيات، وهذه طريقته عليه الصلاة والسلام، قالت عائشة رضي الله عنها: (ما كان رسول الله يسرد الحديث كسردكم، إنما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلاً تفهمه القلوب) فقرات وجملاً، بحيث أن السامع لها يفطن للمعنى الذي يريد، فإن السرعة في القول تفوت بعض مقصود المتكلم، بحيث أن السامع لا يستطيع متابعة المتكلم لسرعته، لذلك كان الأفضل أن يتكلم الإنسان كلاماً فصلاً بطيئاً؛ حتى يتيح للسامع التأمل.
فكان عليه الصلاة والسلام يقرأ هكذا: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم:19] ثم يسكت {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:20] ثم يسكت، ففي هذه السكتة نطق الشيطان وحاكى صوت النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((تلك الغرانيق العلا)) ((وإن شفاعتهن لترتجى))، فسمع المشركون صوتاً يشبه صوت النبي عليه الصلاة والسلام، فظنوا أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي قرأ، وخرجوا بهذا من المشكل؛ لأن الحافظ ابن حجر في الفتح زعم أن هذه القصة لها قوة، قال: إن مجموع طرق هذه القصة يفيد أن لها أصلاً.
يفيد أنها حدثت، لكن الحافظ ابن حجر أول هذا التأويل الذي ذكرته، وقال: يستحيل أن يجري هذا الكلام على لسان النبي عليه الصلاة والسلام، فإن هذا مناف تماماً للعصمة في البلاغ، لكن الحافظ ابن حجر حمل على أن الشيطان هو الذي تكلم في أثناء هذه السكتات بصوت يشبه صوت النبي عليه الصلاة والسلام؛ فظن المشركون أن هذا من جملة التلاوة.
ولذلك تتمة الآيات: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الحج:53] أي أن الذي ألقاه الشيطان بلسانه صار فتنة لهؤلاء، وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يحابي آلهتهم؛ ففتنوا فتوناً عظيماً لهذا.
لكن العلماء يقولون: (إن التأويل فرع التصحيح).
وهذه القاعدة مهمة، ومعناها: أنك لا تلجأ إلى تأويل رواية أمامك إلا بعد أن تثبت صحتها، وإلا صار التأويل عبثاً.
لماذا تؤول شيئاً ضعيفاً أو مكذوباً أو باطلاً؟ يكفي في رد الباطل أنه باطل؛ لذلك يقولون: إن التأويل فرع التصحيح، أي أنك لا تلجأ لتأويل رواية أمامك إلا بعد أن تثبت أنها صحيحة، فإن ثبت لديك أنها ضعيفة أو مكذوبة أو منكرة فلا تشتغل بتأويلها.
لذلك نحن نضرب صفحاً عن هذه القصة، ونرى أنها باطلة، وقد صرح جمع من العلماء ببطلان هذه القصة، حتى قال القاضي عياض -بعد أن أثبت ضعفها وبطلانها- قال: (وعلى التسليم أنها صحيحة، فتأويلها كذا وكذا، ونعوذ بالله من صحتها).
فإنه ليس لها إسناد يقوم على طريقة أهل الحديث، فكفانا الله مئونتها ومئونة تأويلها.
فما هو التأويل الصحيح للآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52] أي: ما يقرأ نبي آية إلا أولها بعض البطلة والمبتدعة تأويلاً يعود على الآية بالإبطال (إذا تمنى): أي إذا الرسول قرأ؛ ألقى الشيطان في أذهان بعض السامعين تأويلاً يعود على الآية بالبطلان مثلاً: لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، قال المشركون: انظروا إليه يأكل ما قتل ولا يأكل ما قتل الله، لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} [المائدة:3] المنخنقة: أي التي تخنق، والموقوذة: أي التي تضرب بحديدة أو بخشبة على رأسها فتموت، والمتردية: أي التي تتردى من مكان عال إلى مكان منخفض؛ فتموت بأثر الصدمة، والنطيحة: أي: التي نطحتها أختها فماتت بسبب النطحة.
فيقولون: إن هذه الأنواع كلها الله عز وجل هو السبب في قتلها، قدر عليها أن تموت فماتت، فكيف لا تأكلون ما قتل الله، ثم تأكلون ما قتلتم أنتم بالذبح؟! فيعودون لهذا التأويل بالبطلان على الآية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، أفتأكلون ما تقتلون ولا تأكلون ما قتل الله؟! فالنبي صلى الله عليه وسلم يتلو، يتمنى في تلاوته فيلقي الشيطان الشُبه التي تعود على هذه التلاوة لإبطال معناها، وهذا في النهاية تكذيب صريح للتلاوة.
وأيضاً لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، قالوا: إذاً عيسى في النار؛ لأن هناك من عبدوه، {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، يعني: الذين يعبدون وآلهتهم التي كانوا يعبدونها في جهنم، فعيسى عليه السلام عُبد من دون الله؛ إذاً هو في النار فيعودون بمثل هذه الشبه على الآية بالإبطال.
هذه الآية إنما تقال فيمن عبد وسلم أنه معبود، رجل قيل له: أنت إلهنا، قال: نعم، أنا إلهكم.
فهذا رضي بذلك، فهو ومن عبده في النار، أما عيسى عليه السلام فيبرأ من هذا: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116]، فهناك بيان صريح أن عيسى عليه الصلاة والسلام تبرأ أن يكون إلهاً، لكن هؤلاء يعودون بتأويلهم هذا إلى إبطال هذه الآية، معنى أن تثبت أن عيسى عليه السلام ومن عبده في النار، إذاً أنت تعود بالبطلان على هذه الآيات من سورة المائدة: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة:116].
فالرسول يقرأ، والشيطان يلقي الشبه في أذهان المستمعين؛ فيعودون على الآية أو بعض الآيات الأخرى بالبطلان هذا هو التفسير الصحيح للآية.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج:52] وهذا يدل على شمول هذا التزيين من الشيطان، سواء كان للرسل أو للأنبياء.
ومعلوم أن الرسول أعم من النبي، فكل رسول نبي وليس العكس، ليس كل نبي رسولاً، فهناك بعض الأنبياء إنما آتاهم الله النبوة تشريفاً لهم، لكن ليس لهم رسالة يؤدونها إلى أقوامهم.
فما من رسول أو نبي قرأ شيئاً من الوحي إلا ألقى الشيطان في هذا الوحي بالإيهام، فيعود على التلاوة بالبطلان، لكن أن يكون هذا فيما يتعلق بقصة الغرانيق حاشا لله، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم معصوم ومنزه عن أن يقع في هذا الكفر الصريح نعوذ بالله تعالى من اعتناق الباطل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.