(ذكاءٌ وحرصٌ وافتقارٌ وغربةٌ) الغربة هنا لها معنيان: المعنى الأول ووهو المشهور: هو الرحلة لطلب العلم، أن تغترب وتترك أهلك ودارك لتطلب العلم.
وهذه الرحلة من مفاخر العلماء، لاسيما علماء الحديث؛ لأننا لا نعلم من اشتهر بها أكثر من علماء الحديث، ولهم في الرحلة أشياء عجيبة! أنت الآن بين يديك مكتبة ضخمة جداً ولا تعرف منها إلا القليل، وصحيح البخاري -مثلاً- به قرابة ألفين وخمسمائة حديث وتزيد قليلاً بدون المكرر.
فكم عانى البخاري في سبيل جمع هذه الأحاديث؟! وكم رحل وكم تعب في تصنيف هذا الكتاب! والواحد منا قد يجلس في ليلة يؤلف رسالة، ويجمع صفحة من هنا وصفحة من هناك، ثم يقول لك: راجعته في مجلسين وأخرج رسالة.
والإمام البخاري، الذي كان يحفظ ثلاثمائة ألف حديث صنف صحيحه في سبع عشرة سنة، ومرة دخل بغداد، وكان أهل بغداد ينتقصون الأفاضل، فقال رجل من أهل بغداد: إن البخاري لا يحسن أن يصلي.
فسمعه رجل وأخبر الإمام البخاري وقال: إن رجلاً يقول: إنك لا تحسن أن تصلي.
فقال البخاري: لو شئت لسردت لك عشرة آلاف حديث في الصلاة قبل أن أقوم من مجلسي هذا.
عشرة آلاف حديث في الصلاة يسردها كما يقرأ أحدنا ((قل هو الله أحد)) ومع ذلك صنف كتابه في سبع عشرة سنة، وجمعه من كل الأمصار.
الإمام شعبة بن الحجاج رحمه الله له قصة لطيفة جداً في الرحلة إلى طلب العلم، ذكرها الإمام ابن حبان في مقدمة كتابه: (المجروحين)، وذكرها أيضاً الخطيب البغدادي في كتابه (الكفاية) عن أبي الحارث نصر بن حماد، قال: كنا بباب شعبة نتذاكر السنة، فقلت: حدثني إسرائيل عن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر الجهني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فتحت له أبواب الجنة الثمانية)، قال: أبو الحارث الوراق: فخرج شعبة من الدار فلطمني ودخل.
فجلست أبكي، قال: وبعد قليل خرج شعبة، وكان مع عبد الله بن إدريس.
-ولو أن الشيخ الآن فعل هذا بتلميذه فلطمه فإن التلميذ سيرد الكف مباشرةً- فلما خرج شعبة وجده يبكي، فقال: مازال يبكي؟ فقال عبد الله بن إدريس: إنك لطمت الرجل.
قال: إنه مجنون، إنه لا يدري ما يحدث، ثم استقبل شعبة الحديث يسوقه وهذا حديث واحد من ألف ألف حديث كان يحفظها شعبة، وشعبة أمير المؤمنين في الحديث! قال: إني سألت أبا إسحاق السبيعي عن هذا الحديث، هل سمعته من عبد الله بن عطاء؟ وأبا إسحاق السبيعي كان يدلس؛ وكان شعبة شديد النكير على المدلسين، حتى إنه كان يقول: لئن أزني أحب إلي من أن أدلس.
ولا يتبادر إلى الذهن أنه لو خُيِّر بين التدليس والزنا أنه سيقدم الزنا لا.
فهذا على سبيل المبالغة في التنفير من التدليس، كقول النبي صلى الله عليه وسلم للنعمان بن بشير: (أشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على جور)، فلو ذهب إلى أبي بكر الصديق مثلاً، هل يجوز له أن يشهد؟ لا.
وكقوله تبارك وتعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40] مع قوله تبارك وتعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] والمقصود أنه كان شديد الإنكار على المدلسين.
وكان يقول: لئن أشرب من بول حمارٍ حتى أروي ظمئي أحب إلي من أن أدلس.
وأبو إسحاق من المدلسين، فسأله شعبة هذا
Q سمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء؟ فغضب أبو إسحاق وأبى أن يجيب، وهذا من أكبر الدلائل على أنه دلس، فقال: مسعر بن كدام -وكان جالساً مع أبي إسحاق السبيعي - قال: يا شعبة! عبد الله بن عطاء حيٌ بمكة.
وكان شعبة؟ يسكن في البصرة.
قال شعبة: فخرجت من سنتي إلى الحج ما أريد إلا الحديث، قال: فدخلت مكة فأتيت عبد الله بن عطاء؛ فإذا رجلٌ شاب، فقلت له: حديث عقبة بن عامر في الوضوء، سمعته منه؟ قال: لا.
حدثني سعد بن إبراهيم -وهو مدني- قال: شعبة فذهبت إلى مالك بن أنس -الإمام مالك - قلت له: حج سعد بن إبراهيم؟ قال: لم يحج هذا العام.
-إذاً هذا سيكلفه رحلة إلى المدينة- قال: فقضيت نسكي وتحللت وانحدرت إلى المدينة، فدخلت على سعد بن إبراهيم، فقلت له: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا.
من عندكم خرج -أي: من البصرة- قال له: من حدثك؟ فقال له: زياد بن مخراق.
قال شعبة: حديثٌ مرة مكي، ومرة مدني، ومرة بصري! دمّر عليه، لا أصل له.
قال شعبة: فانحدرت إلى البصرة وأنا كثير الشعر، وسخ الثياب، فلما دخلت على زياد بن مخراق، قلت له: حديث الوضوء، فقال: ليس من حاجتك، فقلت لا بد، فقال: لا أحدثك حتى تذهب إلى الحمام فتغتسل وتغسل ثيابك ثم تأتي.
قال: فذهبت إلى الحمام فاغتسلت وغسلت ثيابي وجئته، فقلت: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا.
حدثني شهر بن حوشب، وشهر بن حوشب رواه: عن أبي ريحانة عن عقبة بن عامر.
كم رجلاً سقط من الإسناد؟ سقط سعد بن إبراهيم، وزياد بن مخراق، وشهر بن حوشب، وأبو ريحانة، أربعة سقطوا من الإسناد، وهذا حتى تعلم خطورة التدليس.
قال شعبة: حديث صعد ثم نزل، دمّر عليه، لا أصل له، والله لو صح هذا الحديث لكان أحب إلي من أهلي ومالي.
ونحن الآن قد يكون هناك عالم في الكويت -مثلاً- وأنت تريد مسألة، فيدركك الكسل، ولا ترحل إليه، فهل أحدنا عنده الهمة التي كانت عند شعبة لما سمع حديثاً فيه فضل عظيم: (من توضأ فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية) فرحل كل هذه الرحلة في سبيل التأكد من هذا الحديث!! ولكن لا يفوتني أن أقول: إن هذا الحديث صح عن عقبة بن عامر عن عمر بن الخطاب في صحيح مسلم.
قال ابن الجوزي: إنما البكاء على خساسة الهمم، ليس البكاء على الفقر، فالفقر أبداً لا يفوت صاحب الهمة العالية.
والإمام أبو حاتم الرازي -الذي قلامة ظفره تساوي عشرات المنتسبين إلى العلم اليوم- أراد أن يخرج من الري إلى بعض البلدان ليجمع الحديث، ولم يكن معه نفقة فأجّر نفسه عند بعض القوافل، وجد قافلة ذاهبة إلى البلد التي يريد، فأجر نفسه عندها، يغسل لهم الصحون ويقوم عليهم حارساً في الليل، ويقيد لهم الدواب، وهو أبو حاتم الرازي، الذي يبدأ بذكره إذا ذكر علماء الحديث وعلماء الجرح والتعديل، وما أنف من ذلك؛ لأنه سيوصله إلى محبوبه، والإنسان في سبيل الوصول إلى محبوبه يرضى بالذل، ويتجرع الهوان.
الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كان فقيراً والدنيا تحت قدميه، ومرة أرسل إليه المتوكل بأموال فردها ولم يقبلها، فأرسلها المتوكل إلى ابنه صالح، فلما قبلها صالح أغلق الإمام أحمد الباب الذي بينه وبين ابنه صالح، ولم يكن في بيته دقيق، فذهب إلى صاحبٍ له كان يثق به، فاستعار منه دقيقاً، وقال لامرأته: اخبزيه.
وبعد وقت قريب جاءت بالخبز ساخناً، فقال: بهذه السرعة! فقالت له: كان فرن صالح موقداً، فخبزت فيه.
فأبى أن يأكل الخبز؛ لأنه خبز في فرن صالح الذي قبل جوائز الأمراء، مع أن قبول الجوائز ليست ممنوعة، فـ ابن عمر كان إذا جاءه مال قبله، وقال: أنا لا أسألهم من دنياهم شيئاً ولا أرد رزق الله.
ولما ذهب الإمام أحمد إلى عبد الرزاق بن همام في اليمن نفدت النفقة، فقالوا له: خذ هذه الأموال وأرجعها لنا في بغداد، فأبى ذلك وأجر نفسه عند القبائل، فالفقر ما كان يحول دون تحصيل العلم أبداً، وإنما البكاء على خساسة الهمم، ونحن عندنا الآن مراجع لم يحلم بها كبار العلماء.
فالشيخ أحمد شاكر رحمه الله -وهو لا يخفى عليكم- في حواشيه على المحلى لـ ابن حزم كان يتمنى أن يرى بعينيه مصنف عبد الرزاق، أو مصنف ابن أبي شيبة، ويقول: أين هي؟ وقد كانت بين يدي صغار الطلبة أنذاك.
ولا حول ولا قوة إلا بالله! ومصنف عبد الرزاق الصنعاني، ومصنف ابن أبي شيبة قلما تخلو مكتبة طالب العلم منهما الآن، وكذلك موارد الظمآن في زوائد ابن حبان، ما رآه الشيخ أحمد شاكر.
إذاً: الغربة ضرورية لطالب العلم؛ لأن الرجل ما كان يعظم في نفوسهم إلا إذا اغترب ورحل؛ لأنه يأخذ ما عند علماء الأمصار من العلم ويضمه إلى علمه، فيعظم في نفوس الطلبة.
وبسبب هذه المسألة نشأ تدليس اسمه (تدليس البلدان والأماكن) بسبب التبجح في ذكر الرحلة، فمثلاً هنا في هذا البلد -أي: في مصر- ربما تجد شارعاً يسمى بشارع دمشق فأقوم أنا وآتي بالشيخ وأجلسه في هذا الشارع: فيحدثني.
فأقول: حدثني فلان بدمشق.
فأنت أول ما تسمع (دمشق) تظن أني تركت البلد ورحلت وأنا أسافر وإنما هو في شارع دمشق، أو حي اسمه بغداد، فتقول: حدثني فلان