ومن هذه القلوب: قلب أنس بن النضر رضي الله عنه.
هذا السيد الذاكي صاحب هذا القلب لما كسرت الربيع بنت النضر ثنية جارةٍ لها وأردوا القصاص أبى عليهم أنس، وقال: (تكسرون ثنية الربيع! لا، والله لا تكسر أبداً، فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم -والثنية: مقدمة من الأسنان- فقال صلى الله عليه وسلم: (يا أنس! كتاب الله القصاص.
قال: يا رسول الله! تكسر ثنية الربيع! لا والذي بعثك بالحق لا تكسر أبداً، فليأخذوا الدية.
وهم يرفضون ذلك -لا بد من القصاص، لابد أن تكسر سنها- فلا يزال النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا أنس! كتاب الله القصاص.
وهو يقول: لا، والذي بعثك بالحق لا تكسر أبداً؛ حتى رضي القوم بالدية.
فحينئذٍ يقول صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) يا له من عبد! كم قدره وكم يساوي أن يقسم على الملك الجليل! أن يقسم عليه أن يفعل كذا! فيبر الله قسمه ويفعل.
كم يكون قدر هذا العبد!! ولو أن رجلاً لاذ بأعظم أهل الدنيا، فإنه لا يستطيع فعل شيء، فهذا فرعون الجبار ما ملك لنفسه ضراً ولا نفعاً.
وهذه الظاهرة ظاهرة التطوس.
مثل أن يكون هناك ديك أو دجاجة فيجعل من نفسه طاووساً ومهما صنع فهو من الدجاج، وهذه الظاهرة تسمى ظاهرة التطوس.
لكن الملك الجليل أقسم عليه عبدٌ من عباده فأبره، لأن هذا النمط من البشر قلوبهم تطوف حول العرش، لا يطوف القلب حول العرش إلا بعلو الهمة وصدق الإيمان؛ لذلك ندندن دائماً على علو الهمة.
من علو الهمة: ألا تنظر حولك، فلو نظرت حولك لاستوحشت بقلة السالكين، ولذلك الله عز وجل منَّ على أهل الكهف لما قال: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11] الضرب على الأذن نعمة من الله، لا تسمع الناس؛ لأن أكثر المصائب التي تفتك بالعزم سببها الناس، فالضرب على الأذن نعمة جليلة.
فلو كنت ماض فصم أذنك إلا عن نداء الحق، واعلم أن كثرة مخالطة الناس تفتك بالعزم، وبالذات في هذا الزمان، الصدع بكلمة الحق مر وعواقبه وخيمة، لكن يبقى بعد ذلك جلالة الذكر عند الله سبحانه وتعالى.
اليوم عندما يريدون أن يلمعوا الزعماء القوميين يعملون المسلسلات والأفلام، وأي إنسان ينظر إلى إنسان من هؤلاء يتمنى أن يكون مثله، بالرغم أنه لا وزن له على الإطلاق، لكنهم لمعوه فقط، وهو لا وزن له.