بل أنا لا أذهب بكم بعيداً وأسوق لكم حكاية حكاها لنا الشيخ العلامة، آخر أعيان المحدثين في الديار المصرية، وشيخ الأشبال أحمد محمد شاكر رحمه الله تعالى وطيب ثراه، يقول وهو يخاطب أحد الأدباء الذين وصفوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكلمتين نابيتين، ولعلكم قرأتم القصة في (كلمة الحق) كتاب صدر لشيخ أحمد شاكر رحمه الله.
يقول: إن السلطان فؤاد كان يصلي الجمعة في العابدين، فاستحضروا الشيخ محمد المهدي خطيب مسجد عبدان؛ لأنه كان خطيباً مفوهاً، وكان السلطان يحب أن يصلي وراءه دائماً، دعته الأوقاف ونقلته إلى مسجد آخر حتى يخطب الجمعة، وصادف في هذه الفترة أن طه حسين عميد الأدب العربي، أتى بالدكتوراه في اللغة العربية من فرنسا، فشل في أن يأخذها في بلاد العرب فأخذها في بلاد الأعاجم.
فأراد الخطيب محمد المهدي أن يثني على الملك فؤاد بمناسبة أنه قادم يصلي الجمعة، فقال يمتدح الملك فؤاد: ما عبس وما تولى لما جاءه الأعمى.
الأعمى: هو طه حسين، ما عبس فيه ولا تولى، بل هش له وبش، وأرسله إلى فرنسا يحضر الدكتوراه.
وبعد أن صلوا الجمعة قام الشيخ محمد شاكر والد الشيخ أحمد شاكر -وكان وكيل الجامع الأزهر- وقف وقال: أيها الناس! صلاتكم باطلة والخطيب كافر، فأعيدوا الصلاة؛ حدث هرج ومرج والسلطان واقف، وهو يقول: أيها الناس! صلاتكم باطلة وخطيبكم كافر.
وبعد ذلك إمام مسجد عابدين رفع إلى السلطان الفتوى يأمره بصلاة الظهر، وكان هذا الرجل - محمد المهدي - له ظهر وله مستشارون، فأقنعوه أن يرفع شكوى ضد الشيخ محمد شاكر.
الشيخ محمد شاكر أفتى بهذا لأن في قول الخطيب تعريض بمقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي: أن الملك فؤاد صنع أفضل مما صنع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لما جاء ابن أم مكتوم عبس وتولى، ولما جاء طه حسين إلى الملك فؤاد ما عبس ولا تولى، قال: هذا تعريض في مقام النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز وإن كان الخطيب يعتقد ذلك فهو كافر.
وأرسل الشيخ محمد شاكر إلى مستشرقين أجانب ممن لهم خبرة بدلالات الألفاظ على المعاني، وأراد أن يستقدمهم ليقول لهم: هل استخدام الخطيب لهذه العبارة فيها تعريض بالمقام النبوي أم لا؟ ولم يرجع لشيخ من شيوخ الأزهر حتى لا يقال: انحازوا له.
فلما علم أن القضية في النهاية ستحدث فتنة وخسراناً فيها محمد المهدي وقد أذله الله، قال الشيخ أحمد شاكر: وأقسم بالله لقد رأيت هذا بعينيّ، طال الزمان بالرجل محمد المهدي -والذي كان من أشهر خطباء مصر، حتى إن الملك فؤاد كان يحرص على الصلاة عنده- فلقد رأيته خانعاً ذليلاً فراشاً لأحد المساجد يتلقى نعال المصلين، فتواريت عنه وهو يعرفني وأنا أعرفه؛ حتى لا يراني، فلست مشفقاً عليه فلم يكن يوماً موضعاً للشفقة.
الشيخ محمد شاكر رحمه الله لا يعرفه كثير من جيلنا؛ والسبب في هذا: انقراض علم التراجم، لم يعد هناك أناس يعتنون بتراجم العلماء العاملين كما اعتنى سلفنا كالحافظ ابن كثير والحافظ شمس الدين الذهبي، والحافظ المزي ثم أتى بعد ذلك الحافظ زين الدين العراقي، ثم أتى بعد ذلك الحافظ ابن حجر، وبعد ذلك الحافظ شمس الدين السخاوي والسيوطي إلخ، حتى وصل إلى الشوكاني فصنف البدر الطالع في العلماء، وكل قطر حسب همة علمائه ففقهاء اليمن لهم كتاب في مجلدين فيه تراجم فقهاء اليمن.
أما هنا في مصر ففقراء جداً في فن التراجم، فالشيخ محمد شاكر لا يعرفه جيلنا إلا من خلال المطالعات الدقيقة، لاسيما إذا كان مثلاً الشيخ أحمد شاكر -وهو من أعيان المحدثين- هو الذي ذكر هذه الواقعة، ولولا أنه ذكرها لاندثرت، ولا يوجد كتاب في التراجم بالنسبة للمعاصرين إلا كتاب الزركلي الذي هو كتاب الأعلام، ولكنه كتاب مختصر جداً لا يروي غليلاً.
فالحاصل: أن أمثال هؤلاء العلماء أين هم في الأمة المسلمة الآن، الذين يقودون المسلمين إلى صدع بالحق مهما كلفهم ذلك؟ كيف يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم إذا جاز للعالم الرباني -إن كان موجوداً- أن يخاطب بهذا الحماس هذا الجمع، وأضعاف أضعاف هذا الجمع، أمام جهاز التلفاز الذي ذكروا في آخر إحصائية أن المشاهدين الدائمين لهذا الجهاز يتجاوزون خمسة عشر مليوناً، من في البيوت النساء والأطفال ومن في المقاهي إلخ، فضلاً أنه في فترة المساء تزداد الكمية جداً، وكذلك في أيام الجمعات والإجازات يزداد عدد المتفرجين.
إذا جاز للعالم الرباني أن يخاطب هذا الجمع، فيفاجئ أن هناك جهازاً لا يمكن منه العالم الرباني يهدم له كل هذا الذي يقوله، يخرج الرجل من هنا جذوة نار في منتهى الحماس، حتى إذا دخل البيت ولم يشم رائحة الإسلام ولا الآداب الإسلامية؛ انطفأت هذه الجذوة، ويظل ما بين الأخذ والرد حتى ييأس أو تموت نفسه اللوامة.
قال لي بعض الناس -بعد أن ذكرت له استنكار العلماء واستنكار كل من له ذوق إسلامي على هؤلاء النسوة اللاتي يمشين في الشوارع عاريات-: أنا أنظر إليهن ولا أشعر بشيء من الشهوة، فأين الفتنة المزعومة التي تذكرها؟! فقلت له: أنا لا أكذبك، وأنت صادق حين تقول: إن نفسك لم تتحرك بشيء من الشهوة، ولكن أستطيع أن أجزم الآن بأن نفسك اللوامة قد ماتت، النفس اللوامة التي إذا رأت المنكر قرعت تلقائياً، الإنسان المفطور على هذا الدين أول ما يرى المنكر يقرع له ويحس به، قال بعض العلماء المعاصرين: كانوا قديماً يدورون بين سنة وبدعة، ونحن الآن ندور بين بدعة وردة! مبتدعنا إن تهاون قليلاً سقط في الردة، وكانوا قديماً إذا تهاون رجل في السنة سقط في البدعة؛ هذا كله المسئول عنه غياب العالم الرباني العامل بعلمه، فيأخذ كل هذه الجموع إلى طريق الله عز وجل وإلى طريق السعادة.