معاذ ومعوذ وصدق انتمائهما

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: بينما أنا في الصف يوم بدر إذ رأيت غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما -ما بين الاثني عشر سنة والأربعة عشر سنة- قال: فجاءني أحدهما فغمزني، وقال: يا عم! هل تعرف أبا جهل؟ فقلت: يا ابن أخي! وما تريد منه؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن التقى سوادي بسواده -أي: جسمي بجسمه أو شخصي بشخصه- ما أتركه حتى يموت الأعجل منا، يقول تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] هذا هو دليل الانتماء (أشد حباً لله) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب الرجل أخاه لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) هذا هو داعية الانتماء.

قال: لئن التقى سوادي بسواده لا أتركه حتى يموت الأعجل منا، قال: وجاءني الغلام الآخر فغمزني وقال لي مثلما قال الأول، وكل منهما حريص على أن يقتل أبا جهل قبل أخيه؛ لأن عدو الله ورسوله لا يجوز له أن يحيا بيننا أبداً، ولا يحل لنا أن نلقي إليه بالود أبداً، هذا قادح في المحبة والانتماء.

قال: فلم أنشب -أي: لم يمر إلا وقت قصير- حتى رأيت أبا جهل يجول في الناس -أي: يضطرب، قلق، يذهب ويأتي ليس له مكان ثابت- قال: فلما رأيته، قلت لهما: هذا صاحبكما، قال: فابتدراه فضربه كل بسيفه فقتلاه، ثم اختصما على سلبه -السلب: ما يكون عند الرجل المقتول من المغانم، والمجاهد إذا قتل الكافر فله سلبه؛ متاع ويكون ملكاً للمجاهد الذي قتله، فاختصم هذان الغلامان فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل يقول: أنا -لأن قتل عدو الله ورسوله شرف- فقال عليه الصلاة والسلام: (هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا.

فقال: أرياني، فلما نظر إلى سيفهما، قال: كلاكما قتله).

الغلام الأول: معاذ بن عمرو بن الجموح، والغلام الآخر: معاذ بن عفراء، وفي رواية أخرى أن اللذين قتلا أبا جهل: هما معاذ بن عفراء ومعوذ بن عفراء.

فينبغي علينا أن نعلم أبناءنا صدق الانتماء لله ورسوله، وألا يأخذهم في الله لومة لائم؛ لأن الانتماء إنما هو موالاة الله ورسوله.

ومن صور الانتماء لله ورسوله: ما حدث في غزوة أحد (لما كانت الدولة للمشركين وصعد أبو سفيان -قبل أن يسلم- على قمة الجبل والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر أسفل الجبل، وقد أشاع الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل، فصعد أبو سفيان على قمة الجبل، وقال: أفيكم محمد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا تجيبوه، قال: أفيكم أبو بكر؟ أفيكم عمر؟ قال: لا تجيبوه، فلما ظن أن هؤلاء ماتوا -لأن قوام الإسلام كان بهم- قال: أُعل هبل، فحينئذٍ قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبوه؟ قالوا: وماذا نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل، فقال: لنا العزى ولا عزى لكم، قال: ألا تجيبوه؟ قالوا: وكيف نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم).

هذا إظهار لعزة من عبده المسلمون، وإعلاء لجناب التوحيد، نهاهم أن يجيبوه أولاً، فأحسن جد الإحسان، وأمرهم أن يجيبوه ثانياً فأحسن جد الإحسان، إن ذواتنا ينبغي ألا يكون لها وزن في الله تبارك وتعالى، ذواتنا ينبغي أن تمحى، لأن هذا هو مقتضى تجريد الإخلاص لله عز وجل.

فينبغي للآباء أن يعلموا أبناءهم حب الله، وأن يظهروا نعمه التي أنعم بها عليهم، وقد قرأت آيات في سورة الفرقان يعدد الله فيها نعمه على عباده، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا * وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان:47 - 54].

فانظر كيف يتحبب الله عز وجل إلى العباد بنعمه، ويرقق قلوبهم بها، ومع ذلك {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55].

وهذه من ألطف الآيات في مدح المؤمنين؛ لأن الكافر ظهير على ربه، فلا يرى عدواً لله عز وجل إلا وضع يده في يده، بخلاف المؤمنين.

وتأمل قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ} [الفرقان:55]، فالذي يعبد ما لا ينفعه إنما هو مجنون؛ لأن الإنسان لا يعبد إلا من ينفعه ويضره، فما وجه ذكر الضرر في الآية: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} [الفرقان:55] فكأن إلحاق الضرر بالمعبود نعمة، لأن الإله لا يكون إلهاً حتى يضر وينفع، فيضر كل نفس فيها داعية الألوهية، ولو خلي بين الجبار وبين ما في صدره لقال: أنا ربكم الأعلى، كما تجرأ فرعون على قولها فأظهرها وجبن غيره فأضمرها.

قال رجل مرة -وضرب بيده ضرباً شديداً على المنضدة وهو يخطب-: أنا الحاكم {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29]، هكذا قال وقد أهلكه الله {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:20]، ما الذي جرأه على أن قال هذه المقولة التي تفرد بها الله تبارك وتعالى دون ملوك الأرض؟ فكل واحد منا عنده داعية الألوهية لأن يكون جباراً عنيداً، فحينئذٍ هذا لا ينفعه إلا إلحاق الضرر به، فيكون إلحاق الضرر به نعمة.

وقد كان هناك غلام ابن تسع سنين وأصيب بشلل في أطرافه الأربعة، وكان لا يستطيع أن يحرك إصبعاً واحداً، ثم امتن الله عز وجل عليه بالشفاء بالأسباب التي خلقها، فاسترد عافيته، والعجيب أنه أصبح يعمل أشق الأعمال بعد ذلك؛ وذهب إلى العراق وفعل كل شيء: زنى، وشرب الخمر أليس المرض في حقه كان نعمة؟ لو أنه بقي طريح الفراش طيلة عمره، أليس هذا أفضل من أن ترتد إليه العافية، فإلحاق الضرر بمثله نعمة ينبغي أن يشكر العبد ربه عليها، هو ضرر بالنسبة لنا، لكنه رحمة في علم الله عز وجل، إذاً: لا يستقل بمعرفة ما يصلح العباد مما يضرهم إلا الله عز وجل ورسله بتعليم الله إياهم.

القرآن مليء بهذه الآيات، قف على هذه الآيات واشرح لولدك نعم الله عز وجل وآلاءه، وإذا ذُكر الله عز وجل فينبغي أن يظهر ذلك على وجهك، وعلى طريقة جلستك، فإن كنت مضطجعاً فاعتدل في جلستك واجهر بتسبيح الله عز وجل، فالأولاد ليسوا أغبياء، فعيونهم كالكاميرات المسجلة تحفظ كل شيء تراه ثم يطبقونه فيما بعد، فهم في غاية الذكاء وإنما هم عاجزون عن التعبير.

وإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يظهر ذلك عليك، قال الإمام مالك رحمه الله: كان أيوب السختياني إذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم يبكي حتى نرحمه محبة له، هذا أصل الانتماء وأسه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] والصحابة عندما تمكن حب الله من قلوبهم استرخصوا كل غالٍ ونفيس في سبيل الله عز وجل، واليوم أصبح ترك الانتماء قاعدة في البحث العلمي، وهو ما يعرف بالحياز العلمي، والكفار لا يحيزون، ولو حازوا فليس عندهم من يعظمونه فينحازون إليه، ونحن نعلم أن المرء بغير انتماء لا يعمل أبداً، لأن الله عز وجل خلق الناس لهدف، فلا يمكن أن يكون هناك شخص لا يعمل لهدف، فمتى ترك الكافرون انتماءهم فهم ينتمون إلى التراب، ونحن ننتمي إلى العزيز الوهاب، {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81]، لا مساواة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فعلمهم أن يقولوا: (الله مولانا ولا مولى لكم).

روى ابن ماجة في سننه بسند صحيح عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة -والفتى الحزور: هو الذي ناهز الاحتلام- فتعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن) تعلموا الإيمان أولاً، لذلك لم يكذبوا الله ورسوله ولم يتوقفوا عند آية قط، ولم يقفوا عند حديث أبداً، ولا اعترضوا على الله بآرائهم، ولا ردوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم بمحض أهوائهم؛ لأنهم آمنوا أولاً، فهان عليهم ما يجدونه بعد ذلك، فالانتماء هو البوابة إلى الإيمان.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015