إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
Q قرأت في بعض الكتب عن (جواب الحكيم) فما معنى هذه العبارة؟
صلى الله عليه وسلم معنى (جواب الحكيم) أن يزيد المفتي في جوابه على سؤال السائل زيادة لا تتم الفائدة من الجواب إلا بها، مثال ذلك: قال صلى الله عليه وسلم -وقد سألته امرأة، كما في صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما-: (أنها حملت صبياً صغيراً ورفعته، وقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر)، فجواب السؤال تم بقوله صلى الله عليه وسلم: (نعم).
وما سألت المرأة: هل لها أجر أم لا، إنما زادها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الزيادة؛ لأن الإنسان لا يعمل إلا إذا أُجر، هكذا خلق الله عز وجل الإنسان، لذلك خلق له الجنة والنار كترغيب وترهيب، على خلاف ما ينسبونه إلى بعض الصوفية كـ رابعة العدوية وغيرها، التي كانت تقول: لو كنت أعبدك خوفاً من نارك فأحرقني بنارك، ولو كنت أعبدك طمعاً في جنتك فأحرمني من جنتك، وإن كنت أعبدك ابتغاء وجهك فلا تحرمني من وجهك! ويقولون: إن الذين يعبدون الله عز وجل طمعاً في الجنة وخوفاً من النار إنما يعبدونه عبادة التجار، ويقولون: إن عبادتهم مدخولة؛ لأنهم يقولون: إن الذي يعبد الله طمعاً في الجنة وخوفاً من النار لم يخلص في عمله.
وهذا قول مخالف للآيات القرآنية، ومخالف لأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، قال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] فذكر ربنا عز وجل أن الذي يدخل الجنة قد فاز.
ولا يتصور أن يعبد الرجل ربه بغير أجر وجزاء (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم -كما في سنن أبي داود- وقال له: إني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، ولا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال عليه الصلاة والسلام: حولها ندندن).
أي: حول سؤال الله الجنة والاستعاذة به من النار ندندن.
فالإنسان إذا لم يعمل لحافز فترت همته، ولذلك فأنت ترى في الدنيا القطاع العام نظامه فاشل، والقطاع الخاص نظامه ناجح، لأن القطاع الخاص يربط الأجر بالإنتاج، لكن القطاع العام مثل الدواوين، هذا الرجل له مرتب سواء عمل أو لم يعمل سيأخذ مرتبه.
القطاع الخاص يقول صاحبه مثلاً: القطعة بدرهم، فحينها يقول: وأنا لماذا أجلس فارغاً؟ أستكثر من القطع لأجل أن أستكثر من الدراهم هذا كله بسبب الحافز.
والصحابي الذي قال للنبي عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر: (مالي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ قال: لك الجنة.
فكان يأكل تمرات، فرمى بالتمرات، وقال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات، فقاتل حتى قتل).
فتصور الحوار الآتي: هل كان هذا الرجل يبادر فيلقي بالتمرات ويدخل في غمرات القتال؟ لا.
وفي أيام قتال ابن الزبير مع عبد الملك بن مروان، جاء رجل إلى ابن الزبير وقال له: أقاتل معك -وأنا فارس مشهور- فكم تعطيني إذا أبليت بلاءً في القتال يعني؟ قال: أعطيك كذا وكذا.
فقال: أعطني المال؟ قال: حتى نرجع، نقاتل ونرجع.
فتولى عنه الرجل وهو يقول: أراك تأخذ روحي ديناً وتعطيني دراهمك نسيئة.
أي: ما يضمن لي أن أرجع، فالرجل لأنه لم يعطه ابن الزبير ترك القتال معه، فكذلك الإنسان.
فالنبي عليه الصلاة والسلام لما قالت المرأة: (ألهذا حج؟ قال: نعم.
-ثم حفزها لما يعرفه من طبيعة الإنسان أنه إذا عمل أجر- قال: ولك أجر).
لأن الإنسان قد يقول: هذا صبي صغير، وأنا أؤخر الحج حتى يبلغ وتكتب له الحجة، فكان هذا من النبي صلى الله عليه وسلم حافزاً للمرأة، وللرجال الذين يسمعون هذا الحكم حتى يأخذوا أولادهم إلى الحج.
ومنه أيضاً ما رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء أعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! إنا نركب البحر، ونحمل القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) مع أنهم لم يسألوا عن حل الميتة، إنما سألوا عن طهورية ماء البحر أهو طاهر؟ فكان يكفي الشطر الأول في الجواب: (هو الطهور ماؤه) لكن زادهم الرسول عليه الصلاة والسلام حكماً لم يسألوا عنه، وهذا من تمام شفقته عليه الصلاة والسلام بهؤلاء السائلين.
فإذا كان هؤلاء الأعراب استشكلوا طهورية ماء البحر، فلأن يستشكلوا ميتة البحر أولى، إذا كان استشكلوا الشيء المشهور المعروف، فلأن يستشكلوا ما هو أغمض منه أولى، وهؤلاء أعراب يركبون البحر، فقد يغيب الرجل خمسة عشر يوماً في البحر وينفد زاده، وقد يضطر إلى أكل السمك أو أكل حيتان البحر، وليس عنده أي معلومة هل ميتة البحر حلال أم حرام؛ فأشفق عليهم فأفتاهم.
ولو قال شخص: لم يكونوا صيادين.
فنقول: لا؛ لأنه ورد في بعض طرق الحديث أنهم كانوا يصطادون اللؤلؤ، ولو كانوا يصطادون السمك لكان هذا ظاهراً جداً بالنسبة لهم.
لكنهم كانوا يصطادون اللؤلؤ، فربما نفد زاد هؤلاء فظنوا أن ميتة البحر تدخل في عموم الميتة في القرآن، فلا يأكلون، قال الله تبارك وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] و (الميتة): اسم جنس محلى بالألف واللام، يفيد العموم، أي: حرمت عليكم كل أنواع الميتة.
وقد يقول شخص: السمك والجراد معروف للناس جميعاً أنه مستثنى من الميتة؟ نقول: لا، هذا معروف لنا، لكن بالنسبة لهؤلاء الأعراب لم يكن معروفاً، فأنت إذا عرفت أن أحد كبار الصحابة المجتهدين لم يكن يعرف هذا الحكم سهل عليك أن تعرف أن هؤلاء الأعراب لا يعرفون الحكم.
فهذا الصحابي الجليل أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وقد روى خبره هذا البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: أرسلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، وأمر علينا أبا عبيدة بن الجراح، وأعطاهم جراباً فيه تمر، فكان يعطينا الحفنة من التمر فنأكلها.
فلما كاد التمر أن ينفد كان يعطينا تمرة تمره، فكنا نمصها كما يمص الصبي، ونشرب عليها الماء، فلما نفد التمر أكلنا ورق الشجر -يضربونه بالعصي ثم يطحنونه، ثم يأكلونه، فسمي هذا الجيش جيش الخبط، الذي هو نسبة إلى ورق الشجر الناشف- فظلوا يأكلون ورق الشجر شهراً حتى قرحت أشداقهم.
قال: ثم قذف البحر لنا دابة عظيمة يقال لها العنبر -دابة عظيمة: حوت من حيتان البحر، لكنه عظيم الخلق- قال: وجلس ثلاثة عشر رجلاً منا في وقب عينه -مكان العين هذه مكث فيه ثلاثة عشر واحداً من الصحابة- قال: وكنا نأخذ الدهن من عينه بالقلال.
فأول ما رمى البحر هذا العنبر على الشاطئ قال أبو عبيدة: ميتة! لا تأكلوه -لم يكن عند أبي عبيدة خبر أن ميتة البحر مستثناة من عموم الميتة في كتاب الله عز وجل-.
ثم قال لنفسه: نحن جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، ونحن مضطرون، فكلوه -إذاً أبو عبيدة أيضاً لما أكل لم يخالف النص القرآني: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3]، فحمل هذا الأمر على الضرورة، وأكلوا- وأخذوا من لحمه وشائق -أي: وضعوا عليها ملحاً وقددوها-.
فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك قال: (هذا رزق رزقكموه الله عز وجل، فهل معكم منه شيء؟).
فإذا كان أبو عبيدة بن الجراح وهو من هو في العلم حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وقع طاعون عمواس وأراد أن يخرج قبل أن يعرف الحكم، فقال له أبو عبيدة: أتفر من قدر الله يا أبا حفص؟ قال: يا أبا عبيدة! لو غيرك قالها -يعني: كان أدبه، لكن أبا عبيدة كانت له مكانة عند عمر وكان جليل القدر والعلم، وكأنما يقول: أفمثلك في علمه يقول مثل هذا الكلام؟ - نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله.
فإذا كان هذا الحكم يخفى على مثل أبي عبيدة بن الجراح فله أن يخفى على مجموعة من الأعراب أولى وأولى، والرسول عليه الصلاة والسلام علم استشكال هؤلاء عن ماء البحر، فأعطاهم هذا الحكم الزائد الذي لم يسألوا عنه؛ رحمة بهم.
ومن هذا الباب أيضاً: قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، لما ذهب يبحث عن راهب يفتيه: هل له توبة؟ فدل على راهب فأتى إليه، فقال: هل لي من توبة؟ قال: لا؟ فقتله فأتم به المائة، ثم أذن الله له بالتوبة، فسأل عن أعلم أهل الأرض.
فدلوه على راهب عالم، فقال له: إني قتلت مائة نفس، ألي توبة؟ قال: نعم، ومن يحجب عنك باب التوبة؟ اخرج إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعملون الصالحات.
قال: (ألي توبة؟ قال: نعم) وهنا تم الجواب.
كل الزيادة القادمة هذه من تمام (جواب الحكيم) لا تتم الفائدة، ولا ينتفع هذا الرجل إلا بتمام الفتوى.
(ألي توبة؟ قال: نعم.
-الزيادة- (ومن يحجب عنك باب التوبة؟ اخرج إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوم يعملون الصالحات).
أول زيادة: فيها أمانة العا