لابد أن تعرف ربك أولاً، ومن العجيب أن المرء قد يمارس مهنة من أدق المهن التي تحتاج إلى تركيز، وتحتاج إلى ذكاء عالٍ، فإذا هو في خلال سنة يأخذ دورة أو دورتين أو عشراً أو عشرين، وإذا به أحد المرموقين في هذا الفن مع شدة تعقيده، فإذا سألته عن ربه وجدته أجهل الناس به، مع أن معرفة الله أسهل من ذلك بكثير، فهل ذلك لأن معرفة الله صعبة؟ لا.
ولكن أهملوا، ولذلك المرء لا يغفر له جهله إذا لم يسع إلى إزالته.
نحن معاشر أهل السنة وإن كنا نَعذر بالجهل في أصول التوحيد أي: نقول لا يكفر؛ لكننا لا نرفع المؤاخذة عن الجاهل، إذا كان بإمكانه أن يرفع جهله، لماذا عرف أعقد من ذلك وترك معرفة الله وهي أسهل وأيسر؟! قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] فمن أراد الوصول إلى الله وصل، لكن لا يصل إليه ويوحده إلا إذا عرفه وأحبه.
القرآن كله قائم على التوحيد وجزاؤه وواجباته، والشرك وجزاء أهله، فمن أول الفاتحة إلى الناس لا تخرج عن هذا الموضوع على الإطلاق: التوحيد وحقوقه وجزاء أهله، وحقوق التوحيد من الأمر والنهي.
فكل الأوامر والنواهي من حقوق التوحيد بمقتضى أنك رضيت بالله رباً، أي: تسمع وتطيع فيما أمرت به، وتنتهي عما نهيت عنه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [يوسف:40] أي: لا يحكم فيك إلا الله.
وذكر جزاء الموحدين مسألة ضرورية، حتى يحفز العاملين إلى العمل، فنصب الجزاء سنة قررها القرآن وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، وهو يتكلم عن الجنة، تكلم كثيراً عن جزاء المطيعين لربهم تبارك وتعالى، وفصل هذا الجزاء وفصل نعيم الجنان، وكلما زاد التفصيل زاد التصور؛ لدرجة أنه فصل مرة بعض نعيم الجنان، فسأله رجل: (يا رسول الله! ثيابنا في الجنة أننسجها بأيدينا أم تفتق عنها ثمار الجنة؟ فضحك الناس، فقال: مم تضحكون، من جاهل يسأل عالماً؟ نعم يا أعرابي! تفتق عنها ثمار الجنة).
ويسأله في أدق التفاصيل، فيقول: أنت في عليين، في المقام العالي، ونحن دونك، فهل نراك؟ يسأله في مثل هذه الدقائق، وما أغراه في هذا إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم فصَّل، وهذا كله دافع للعمل.
فأول ما ينبغي عليك أن تعلمه حتى تنجو من الشَرَك الأول الذي ينصبه الشيطان: أن توحد ربك، توحيد الإثبات والمعرفة، تحبه أولاً، فإذا أحببته جاء توحيد الطلب والقصد تلقائياً، لا تشعر بكلفة الأوامر ولا النواهي على الإطلاق.