جواب الحكيم وحاجة العالم إليه

فلما لطف الله تبارك وتعالى بهذا الرجل، قال: (دلوني على أعلم أهل الأرض) فدل هذه المرة على راهب عالم، فقال له: (ألي توبة؟ قال له: نعم، ومن يحجب عنك باب التوبة؟! اخرج إلى أرض كذا وكذا).

وهذه الإجابة يسميها العلماء بجواب الحكيم، جواب الحكيم: هو الزيادة في الجواب على سؤال السائل؛ لأن حاجة السائل لا تتم غالباً إلا بها.

ولذلك يسمونه جواب الحكيم لماذا؟ لأن المفتي فقيه النفس، فلما سأله إنسان هذا السؤال راعى أنه قد يستشكل شيئاً ما، فزاده جواباً ليعالج هذا الاستشكال، لاحتمال أن يقابله بعد ذلك.

ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم سيد الحكماء ضرب المثل الأعظم في هذا الجانب، ومنه أخذوا هذا التعريف، ففي السنن بسند قوي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجال من بني عبد الدار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنا نركب البحر ويكون معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ قال: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) مع أنهم لم يسألوا عن ميتة البحر، وإنما سألوا عن طهورية ماء البحر، فقال عليه الصلاة والسلام: (هو الطهور ماؤه) وكان يكفي هذا القدر بالنسبة للجواب عن سؤالهم، لكن قال عليه الصلاة والسلام: (الحل ميتته) فلم أعطاهم هذه الزيادة؟ الذي يستشكل طهورية ماء البحر لأن يستشكل ميتته أولى، لاسيما إذا لم يكن عنده دليل بحل ميتة البحر، فهو حينئذٍ يأخذ بعموم الآية المحرمة للميتة في القرآن: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] (الميتة) أي: كل أنواع الميتة.

وكيف لا يستشكل أمر الميتة على أمثال هؤلاء وقد استشكل على من هو أعظم منهم أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو: أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، كما رواه الشيخان من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما في غزوة سيف البحر، فقد قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أرسلنا النبي صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة في غزوة من الغزوات، وأعطانا جراب تمر، فكان يعطينا حفنة حفنة، ثم يعطينا تمرتين تمرتين، ثم يعطينا تمرة تمرة، فكنا نمصها ونشرب عليها الماء، فلما نفد التمر كنا نضرب ورق الشجر بقسينا فنأكله، حتى رفع لنا البحر بدابة عظيمة يقال لها: العنبر) حوت كبير جداً، يقول جابر بن عبد الله: (نزلنا ثلاثة عشر رجلاً في وقب عينه) وكانوا يأخذون الدهن بالقلال من عينه، قال: (وجاء أبو عبيدة فنصب عظماً من عظامه، فأتى بأعلى بعير وركبه أطول رجل فمر من تحته) يعني: دابة عظيمة جداً.

حسناً: ما كان موقف أبي عبيدة وهو الأمير؟ أول ما رآه قال: ميتة لا تأكلوه.

ليس عنده الحديث الذي يدل على حل ميتة البحر، وعنده النص القرآني فأعمله، وقد استدل العلماء بهذا فقالوا: إن الإنسان إذا وجد دليلاً عاماً لا يجوز له أن يتوقف في العمل به بحثاً عن الخاص) لا يقول: لعله مخصوص، أو يقول: لعله منسوخ، أو يقول: لعله مقيد؛ فيتوقف عن العمل به، بل يجب عليه أن يعمل بالعموم حتى يجد الخاص؛ ولا يتوقف عن العمل بالعموم بحثاً عن الخاص لأنه قد لا يوجد مخصص لمثل هذا العام.

فـ أبو عبيدة بن الجراح ما توقف، وإنما عمل بالعام الذي عنده، وكما قال ابن عباس في صحيح مسلم: (أفلح من انتهى إلى ما سمعه).

قال أبو عبيدة: (ميتة لا تأكلوه، ثم رجع إلى نفسه فقال: جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، ونحن مضطرون فكلوا) فخرج هذا التأويل على الآية أيضاً: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3].

فإذا كان مثل أبي عبيدة بن الجراح يستشكل هذا فلأن يستشكله بعض الأعراب الذين لم يخالطوا النبي عليه الصلاة والسلام من باب أولى، إنما كان الواحد منهم يأتي لماماً إلى مجلسه عليه الصلاة والسلام يسأله ثم ينصرف.

أضف إلى ذلك أنهم في قولهم: (إنا نركب البحر) فهذا يدل على ديمومة ركوب البحر بالنسبة لهم، فقد ينفد زادهم، فإما أن يأكلوا من ميتة البحر وإما أن يموتوا، فالنبي عليه الصلاة والسلام راعى هذا بالنسبة لهم لما رأى استشكالهم للشيء اليسير علم أن استشكالهم للأعظم أولى فدلهم على ذلك.

إذاً: تتمة الجواب والنصح لا تكون إلا بذكر مثل هذه الزيادة.

وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين لما جاءته المرأة بصبي صغير فقالت: (يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال لها: نعم، ولك أجر) مع أنها ما سألت عن الأجر، وكان الجواب يتم (بنعم) إنما قال لها: (ولك أجر) تحفيزاً؛ لأن البشر دائماً لا يعملون إلا لهدف ومقصد، ولو أن محض العمل بدون أجر ما وجدت أحداً يتكلف، ولذلك جعل الله الجنة والنار جزاءً، وهذا مع أنه يدرك بشيء من التأمل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها).

الإنسان إذا غرس الفسيلة -وهي النخلة- إنما يغرسها لما يؤمل من أنه سيأكل من ثمرها أو أولاده أو أي إنسان آخر، فإذا علم أنه لن يأكل منها إنسان ضعفت همته وراح وازعه، فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة -لا يقول: لمن أغرسها؟ ومن الذي سيأكل منها وقد قامت الساعة؟ لا- فليغرسها) يعني: خالف نظرتك: أنك لا تفعل الشيء إلا لهدف.

فالنبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (ولك أجر) فهو يحفز أي شخص معه صبي أن يأخذه بغية الأجر.

ومثل قوله عليه الصلاة والسلام عندما قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.

فقال رجل: يا رسول الله! إن الرجل منا يحب أن يكون نعله حسناً وثوبه حسناً قال: إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس) فانظر زيادة الجواب عرفتنا بصفة من صفات الله تبارك وتعالى، ثم عرفتنا بتعريف الكبر.

فجواب الحكيم هو: أن يزيد المفتي السائل شيئاً في الجواب لا تتم حاجة السائل من الجواب غالباً إلا به، فعندما تقرأ في الكتب التي صنفت في الآداب -آداب الفتوى والمفتي والمستفتي- تراهم يقولون: (لا يجوز للمفتي أن يزيد عن حاجة السائل في الجواب)، فبعض الناس قد يستشكل مثل هذه القاعدة مع ما ذكرناه من الأحاديث.

نقول: لا إشكال؛ لأنهم قالوا: (لا يزيد عن حاجة السائل في الجواب)؛ لأن الزيادة عن حاجة السائل قد تشوش عليه أصل الجواب، كأن يقول لك إنسان: ما حكم القراءة خلف الإمام؟ فتقوم تسرد له مذاهب العلماء وأدلتهم وتناقشها، فتشوش على الرجل من جهة الفتوى، ولا يعرف ما الذي يخرج به، هذا هو المنهي عنه.

لذا قلنا قبل ذلك: إن مشروعية السؤال إنما هي لرفع الإشكال، وليس أن يدخل السائل في هذه الدوامات.

إذاً كلام العلماء في منع الزيادة في الجواب أي عن حاجة السائل، أما إذا كانت حاجة السائل لا تتم إلا بالزيادة على الجواب فمن فقه النفس -أي: للمفتي- أن يزيده ذلك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015