إن الثبات على الأمر هو رأس العلاج كله إن الصحابة الأوائل كانوا مستمسكين بهذا الدين، ويرون أن دينهم أولى بالحفاظ من دمائهم ولحومهم.
وقد أخذوا هذا التمسك وعدم التفريط من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في حديث الحديبية -وهو حديث عظيم اشتمل على حكم باهرة ويحتاج أن يذكر به المسلمون دائماً- لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتمر هو وأصحابه وصدتهم قريش عن البيت، وحصلت المفاوضات، جاء بديل بن ورقاء مندوباً عن قريش يفاوض النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عليه الصلاة والسلام كلاماً فصلاً واضحاً، قال: (إنا لم نجئ لقتال)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم سيد الأوفياء، لا يغدر ولا يعرف الغدر أبداً، قال: (ما جئنا لقتال، إنما جئنا آمّين البيت، وإن قريشاً قد أنهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة)، وإنما قال هذا وهو واثق من أصحابه، إن قريشاً برغم كثرة عددها وعدتها وأموالها قد أنهكتهم الحرب، والذي أنهكهم هم هؤلاء الذين قال فيهم عروة بن مسعود: ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفروا ويدعوك، لقد كانوا قلة، فقراء، جوعى ومع ذلك أدبوا قريشاً، ونحن على استعداد أن ندخل مع قريش في جولات وجولات إذا صدونا عن البيت.
(إن قريشاً قد أنهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة، وإلا فقد جموا -أي: تعبوا- وليس لهم بنا طاقة، فإن أظهر -أي: يظهر أمري- فإن شاءوا دخلوا مع الناس، وإلا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على هذا الأمر حتى تنفرج سالفتي)، والسالفة: صفحة العنق، أي: سأقاتلهم حتى لو بقيت وحدي ولا أدع هذا الأمر.
هذا هو الثبات الذي ورثه أصحابه منه، ففي نفس الحديث لما جاء سهيل بن عمرو وأراد أن يكتب مع النبي صلى الله عليه وسلم صيغة الكتاب، كان من جملة ما كتب: وإذا جاءك رجل منا وإن كان على دينك رددته إلينا، وإن جاءنا رجل منكم ترك دينه لا نرده إليك، فصاح الصحابة وقالوا: سبحان الله! كيف يأتينا مسلم فنرده؟! فلم يكد يكتب هذا الشرط حتى جاء أبو جندل، وهو ابن سهيل بن عمرو الذي يكتب الكتاب مع النبي عليه الصلاة والسلام، وكان قد أسلم، فعذبه أبوه عذاباً شديداً في الله، ولم يترك دينه، ولم ينكث على عقبيه، ولم يتخلَّ عن دينه، فقيده بالحديد ورماه في سجن، فاستطاع أبو جندل أن يفك بعض قيوده، ولكنه لم يستطع أن يفك الحديد كله، وجاء من أسفل مكة إلى الحديبية -وهي مسافة بعيدة- يجر أغلاله وقيوده، حتى جاء فألقى نفسه بين أيدي المسلمين، وكان قد عُذب في الله عذباً شديداً، فعندما رأى سهيل بن عمرو ابنه أبا جندل قال: يا محمد! هذا أول ما أقاضيك به، أي: نحن لازلنا نتكلم: إذا جاءك رجل منا وكان على دينك ترده إلينا، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنا لم نفض الكتاب بعد -أي: ما كتبناه- قال: لا.
قال: فأجده لي -أي: اتركه لي نستثنيه من الكتاب- قال: لا أفعل، إذاً: لا نكتب كتاباً، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع).
فحينئذٍ صاح المسلمون وقالوا: سبحان الله! يأتينا مسلماً ونرده إلى الكافرين! وانبرى عمر وقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى.
قال: أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى.
قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ فقال: أنا رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري)، ولم يقتنع عمر بهذا، فحار، وهذا موقف يدع الحليم حيران.
وفي الصحيح أيضاً من حديث سهل بن سعد أنه قال للناس يوم صفين في قتال علي بن أبي طالب: (أيها الناس! اتهموا رأيكم، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو استطعت أن أرد كلام النبي صلى الله عليه وسلم لفعلت)؛ لأنه قال له: ارجع.
ضع نفسك مكان الصحابة: رجل جاء من أسفل مكة يجر قيوده مسلماً، وقد عذب العذاب الأليم في الله فلم يترك، بل دفعه قلبه وهمته العالية أن يتخلص من بعض أغلاله ويمشي هذه المسافة الطويلة يجرها، إن الإسلام تغلغل حتى مس شغاف قلبه؛ فرأى أن هذا الدين لا يباع، وأنها ساعة بعدها يحط المسلم رحله في الجنة وينسى بؤسه قط، قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأبأس أهل الأرض فيغمس في الجنة غمسة واحدة، ثم يقال له: هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا وعزتك ما رأيت بؤساً قط).
لو كنت مكان هؤلاء الصحابة ولم يعصمك الله عز وجل بالإيمان، لرغبت أن ترد كلام النبي صلى الله عليه، فقد راجع عمر النبي عليه الصلاة والسلام وكان الجواب واضحاً: (أنا رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري)، فذهب عمر إلى أبي بكر وقال: (يا أبا بكر! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى.
قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ فقال له: هو رسول الله، وليس يعصيه، وهو ناصره فالزم غرزه)، أي: لا تبرح كلامه قيد أنملة، وأُمر أبو جندل بأن يرجع.
ثم فر رجل آخر يقال له أبو بصير، ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأرسلت قريش رجلين وراءه، فلما وصل أبو بصير -وكان قد عذب أيضاً- إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا بالرجلين على إثره، فقالوا: يا محمد! العهد الذي بيننا، يريدون أن يرجع معهم، فقال: كيف ترجعوني؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارجع)، فرجع أبو بصير، حتى إذا كانوا بذي الحليفة جلسوا يأكلون التمر وأبو بصير معهم، وكان مع أحدهما سيف، فجعل يتحدث عن سيفه، وأن هذا السيف جديد، وأنه قتل به كثير من الناس، وأخرج السيف من غمده يلمع مصقولاً، فقال له أبو بصير: ما أجود سيفك! هذا سيف جيد فعلاً، أرينيه! فأمكنه الرجل منه، فضرب عنقه، وفر الآخر راجعاً إلى المدينة، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال)، فقال أبو بصير: (يا رسول الله! قد وفى الله ذمتك، قلت لي: أرجع فرجعت، ولكن خلصني الله منهم)، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع، فلحق أبو بصير بسيف البحر.
أي: ذهب إلى شاطئ البحر هو وأبو جندل، وكان كل رجل من المسلمين يسلم من قريش يلحق بهم؛ حتى أصبحوا عصابة على شاطئ البحر، فلا يسمعون بعير لقريش إلا هاجموهم وقتلوهم وأخذوا العير.
فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم أنه إذا خرج رجل مسلم من قريش فلا يرده؛ حتى يجنبوا قريشاً هذه الهلكة، وأنزل الله تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24].
إننا نحتاج إلى هذه الدروس كي نثبت على دين الله عز وجل.