الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على رسوله الأمين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين إن الزجر بالهجر قاعدة من قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو أن المسلمين امتثلوا هذه القاعدة لخف وقع المعصية في ديارهم، ولقل أهل البدع، لا سيما إذا كان للزاجر سلطان.
أصحاب المحلات الذين يظنون أن العمال الذين يعملون عندهم ليسوا تحت مسئوليتهم نقول لهم: إن العامل إذا ترك الصلاة فهي في عنق صاحب المحل، لماذا يذهب أصحاب المحلات ويتركون محلاتهم وفيها العمال يعملون؟ لو أن هذا العامل أساء في العمل، أو أتلف بضائع المحل لأزاحه عن العمل، وليس بعيداً أن يقدمه للنيابة ويرفع ضده قضية إذا تبين له أنه سرق شيئاً من البضائع، أو إذا تأخر عن موعد فتح المحل مرة أو مرتين بما وقع في نفس صاحب المحل أن هذا الرجل مهمل، فإنه يستغني عن عمله؛ لأنه عق صاحب العمل، فإذا عق ربك تبارك وتعالى كيف ساغ وهان عليك أن يبقى معك مع هذا العقوق؟ لو أن كل صاحب محل اشترط على العامل أن يصلي الصلوات الخمس في جماعة لقضينا على هذا التهاون الذي نراه في ديار المسلمين.
إن البيع وقت النداء يوم الجمعة محرم، قال العلماء: فكذلك البيع وقت النداء للصلوات الخمس؛ لجامع العلة المشتركة بين الحكمين.
إذاً: لا يجوز أن تعقد صفقة بيع والمؤذن يؤذن، بل توقف عن كل شيء، كما توقف البيع إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، قال الله عز وجل: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] أي: اتركوه، وإذا أمر الله عز وجل بترك شيء فإنه يكون حراماً، فكل أصحاب المحلات سيسألون عن هؤلاء العمال، فينبغي أن يُهجر، فإن العامل إذا علم أن عيشه سيقطع، وهو محتاج للوظيفة، فهو على استعداد أن يمسك ذيل بغلة السلطان في سبيل لقمة العيش، فإن البعض قد يرتشي ويعمل المحرمات، ويعتذر بأنه يريد أن يأكل لقمة العيش.
فإذا كان في سبيل طلب لقمة العيش سوف يرتكب المحرمات، فحينما تأمره بتقوى الله عز وجل والصلوات الخمس سوف يلقى هذا الأمر عنده -لو عنده مسحة إيمان وإسلام- قبولاً وراحة، فإنه سيريح نفسه من الشغل، ويغسل وجهه من العرق الذي عليه، فهي ساعة راحة بعد العمل المضني.
فلو أن أصحاب المحلات فعلوا ذلك لفعلوا خيراً كبيراً، فكم تكلم الدعاة في هذا الأمر، وناشدوا أصحاب المحلات أن يتقوا الله في هذا الأمر، إننا نريد أن نرى المحلات مغلقة في وقت الصلاة، مكتوباً عليها عبارة (مغلق للصلاة)، نريد أن نرى هذه العبارة مرة أخرى، نريد أن نرى الناس كلهم يتوجهون إلى الصلاة، فلا بيع ولا شراء.
وأنت على ما عودت الزبون، ولي تجربة في هذا الأمر، ففي مطلع الثمانينيات عندما كنت أشتغل في بقالة في مدينة نصر وفي المنطقة الأولى -في منطقة راقية- وكان هذا المحل له رواج؛ لأمانة صاحبه، ولأنه كان يأتي بأحسن البضاعة، فكنا نبيع بنحو ثلاثة آلاف جنيه في اليوم الواحد.
المهم أن المنطقة الأولى هناك في مدينة نصر معروف أنها منطقة راقية، وفيها مسجد رابعة العدوية، الذي صار في مكان مسجد عمر مكرم، ومسجد عمر مكرم كان الناس إذا أرادوا أن يدخلوا أحداً الجنة -بزعمهم- يمرون بجنازته من عند مسجد عمر مكرم، وبعد أن ازدحم مكان هذا المسجد وتلوث بدخان السيارات وغيرها؛ استبدلوا مسجد رابعة العدوية بمسجد عمر مكرم.
وهنا فائدة نحوية: وهي أن الباء في الاستبدال تلحق بالمتروك، فيقال: استبدلوا مسجد رابعة بمسجد عمر مكرم، ولذلك يقول العلماء: باء الاستبدال إنما تلتحق بالشيء المتروك، فلو كان عندك ثياب أسمال بالية، وأتيت بقميص جديد، وأردت أن تعبر أنك استبدلت هذا القميص بهذا القميص، فتقول: استبدلت الثوب الجديد بثوب قديم.
فالباء هذه تلصق بالشيء الذي تركته، قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء:2]، فهم تركوا الشيء الطيب، وقال تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61] وهم هنا تركوا الخير، الذي هو المن والسلوى، ولذلك جاءت الباء في ((الذي هو خير)) واسمها (باء الاستبدال).
فالمهم: أن هذا المسجد صار المسجد الرسمي الذي تأتي منه الجنائز العسكرية وهذا كله لأن الحي راقٍ، فأول ما بدأت العمل كان المحل يزدحم في أوقات الصلوات، والشيطان يزيد العمل والرزق يكثر، وكيف تترك الزبائن؟ وسوف تصلي بعد قليل وهكذا.
فقلت لصاحب المحل -وهو رجل أحسبه من المؤمنين المخلصين، ولا أزكيه على الله عز وجل- قلت له: إنه لا يجوز البيع وقت النداء، فقال: الزبائن كثير، وكلهم أناس أكابر، ومستواهم عالٍ، وسوف يغضبون علينا، وأنا من سنة سبعة وستين وأنا على هذا الحال فقلت له: نبدأ ونجرب، فأول ما يؤذن نوقف البيع، وبدأنا في هذا الأمر، فأتى إلينا رجل في وقت الأذان، فقلت له: لا بيع ولا شراء، أنت الآن تسمع الأذان، (الله أكبر) يعني: الله أكبر من البيع والشراء والفلوس ومن كل شيء، فقال: ولماذا؟ أين صاحب المحل؟ قلت له: صاحب المحل سبقني، ذهب يتوضأ، وأنا لن أبيع، وكان هناك ثلاثة أو أربعة أو خمسة فخرجوا من المحل.
الشيء العصيب هو أننا رجعنا من المسجد ووجدناهم واقفين في باب المحل! لم يذهبوا ليصلوا معنا، فهذه آية من الله عز وجل أن رزقك منتظر لك، مع أن هناك عدة محلات، من الممكن أن يأخذهم الغيظ فيشترون من أي محل آخر، ولا يرجعون إلى هذا المحل على الإطلاق، لكن الأمر كما قال الله عز وجل: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]، فإذا قدر الله عليه أن يقف هنا فسوف يقف؛ لأن الله أخذ بناصيته، والمال الذي معه قد كتب لي ثم استمرت هذه المسألة ولم نجد كبير عناء، إلا شيئاً يسيراً في البداية، وبعد نحو شهر أو شهرين كان إذا أذن المؤذن لم نجد أحداً لماذا؟ لأنه كان إذا أراد أحد أن يشتري شيئاً ينظر إلى الساعة أولاً، يقول لي أحدهم: كنت إذا أردت أن أرسل البنت أنظر إلى الساعة، فإذا وجدت أن الظهر قد اقترب فلا أدعها تذهب.
فنحن نناشد أصحاب المحلات نناشدهم الله عز وجل الذي هو أقوى من سلطة القانون، عندما يسمعون الأذان أن يغلقوا المحلات، ويصطحبوا العمال للصلاة، وإذا ثبت أن العامل تهرب، وجلس يدخن في دورة المياه وقت الصلاة، فعليه أن يفصله من العمل، فإن الذي يخون الله عز وجل لن يكون أميناً في عمله على الإطلاق يخون الملك العلام، القوي، القادر عليه، وبكل جرأه وبجاحة، ولا يؤثر فيه إطلاقاً أي تأثير، فهل تتصور أنه سيعمل لك حساباً؟ لا والله، هذا خائن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
فالزجر بالهجر عن طريق المشاحاة، وعن طريق قطع الحوافز، بل عن طريق الفصل الجذري، هذا يعيد لنا بهاء المجتمع الإسلامي، فينبغي لنا استخدام قاعدة الزجر بالهجر حتى تقل المعاصي واللامبالاة الموجودة في المجتمع.
والداعية إلى الله عز وجل لابد أن يكون لطيفاً وظريفاً وخفيفاً، ودائماً يقول كلاماً حسناً، لكنه أحياناً يحتاج إلى أن يستخدم المشرط مع بعض الناس.
اتصل بي أحدهم فقال: أنا أريد فلاناً.
قلت: أنا فلان.
قال: صلِّ على النبي.
عليه الصلاة والسلام، طيب زيد النبي صلاة.
عليه الصلاة والسلام، وحد الله قلت: لا إله إلا الله.
قال: انظر أنا طلقت طلقات ليس لها عدد، وأريد أن أعرف هل أنا أعيش الآن في حلال أم في حرام؟ قلت له: أنت تعيش في حرام، وهذه لا تحتاج إلى مفتي.
فقال: وهل أنا تكلمت؟ قلت له: نعم، تقول لي: إنك طلقت طلقات ليس لها عدد، والطلقات إنما هي ثلاث فقط، فلو أنك طلقت ثلاث مرات لحرمت عليك امرأتك، وأنت الآن تقول: إنها طلقات ليس لها عدد، ثم تأتي وتسألني: أأنا في حلال أم حرام! فقال: احلم علي واسمع مني هذا الكلام قلت لها في المرة الأولى: هات كوب الشاي، فلم تأت به، فقلت لها: أنت طالق.
قلت: وقعت ثم قال: وقلت لها: اعملي كذا وإلا فأنت طالق، وغير ذلك من الأمور التافهة التي لا يمكن أن يعملها رجل عاقل إلخ ما دار بيني وبينه من كلام.
فهل هناك أحد يستفتي في هذه المسألة ويسأل هل هو في حلال أم في حرام؟! وهذا السائل هل ينفع أن يكون أباً؟ أو يصلح أن يكون جديراً بلقب الأبوة؟! وهل يتصور أن ينجب هذا الرجل أبناءً حتى ينفعوه هو على الأقل؟ بل هل من الممكن أن ينفعوا أنفسهم؟! فهذا النمط من الناس إذا استفتاك أحدهم بهذه الصورة فإنه سيضيع وقتك، فلا بأس أن تغلق السماعة ولا تكلمه؛ لأنك مضطر أحياناً لاستخدام مثل هذا: الزجر بالهجر.