إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيد.
في قصة يوسف عليه السلام عبر كثيرة جداً، لكن من العبر التي نقف عليها، وهي متعلقة بالكلام الذي قلناه آنفاً عمن أورد قصة يوسف مع إخوته في معرض التمثيل على أضرار تعدد الزوجات، فقال: إن يعقوب عليه السلام فرق ما بين الأولاد، وهو يريد أن يقول: فإذا كان هذا حال الأنبياء فكيف بحال العوام؟ هو يريد أن يقول هذا.
فغمز ذلك النبي الكريم بالظلم، فهل في قصة يوسف من أولها إلى آخرها أية إشارةٍ من رب الأرباب إلى ظلم يعقوب عليه السلام لولده؟ وهذا الرجل من أين أخذ هذا الكلام؟ أخذه مما جاء على لسان إخوة يوسف: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] فهم الخصم في هذه القضية، فهل الخصم تؤخذ منه الدعوى؟! فإذا جاء رجل مدعٍ، يقول عن آخر: هو ظالم، أقول له: ما هو الدليل؟ فيقول لي: لأنه ظالم، فهذا رجل مدع ولم يقدم دليلاً إلا الدعوى، والدعاوى إنما يستدل لها لا بها، وملخص دعواهم؟ {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] هذه هي الدعوى: أنه يحبهما أكثر مما يحبنا.
فأنا آتي على هذا وأقول له: ما هو الدليل على أنه ظلمك؟ لا أقبل منه أن يقول: إنه ظالم لي لا، بل يقول: لا يعطيني كذا، ويعطيني كذا، وحرمني لي من كذا وكذا أما أن يستدل بنفس الدعوى على الدعوى! فهذا لا يقبل منه، فهم قالوا هذه الدعوى، فهل هم محقون فيها؛ حتى أسلم لهم، وألمز هذا النبي الكريم؟ ومما يدل أيضاً على أنهم من العوام أنهم يزنون الأمور بالكيلو، مثل العوام تماماً، فيقولون: بما أننا نحن عصبة؛ إذاً: نحن أولى بالحنان والحب من الاثنين، وهكذا مقياس العوام، إذا قمت في الناس تذكر وتنذر بآيات الوحي، وبكلام النبي عليه الصلاة والسلام، يأتي من يقول لك: هل أنت على هدى وكل هؤلاء على ضلال؟! يزنونها بالكيلو أيضاً، مع أن الحق لا يخضع لمثل هذه القسمة، بل الأنبياء جاءوا في وسط المخالفين، وكل المخالفين سفهوهم واحتقروهم، وأخرجوهم وهموا بقتلهم، بل وقتلوا بعضهم، كيحيى عليه السلام لما قتلوه وأهدوا رأسه لامرأة بغي.
فهؤلاء هذا ميزانهم، والمسائل عندهم لا تخضع لمقياس الحق، إنما تخضع للكثرة، والعجيب في المسألة: أن هذه الكثرة يمكن أن تنقلب على ضلال في رأيهم لو كانت ضد أهوائهم، وهذا هو العجيب في الموضوع! ولو عاملتهم بنفس مقاييسهم وقلت لأحدهم: أنت تزن بالكيلو وأنا سأزن لك بالكيلو، لو جاء واحد فقط من المفتين -والجماعة الذين معه لا يؤبه لهم- فقال: إن الفوائد الربوية حلال، ووضع الفلوس في البنوك حلال، وخالفه البقية ولجنة الفتوى، وكل المجامع العلمية في البلاد الإسلامية، قالوا: لا، هذا ربا صريح.
يقول لك: لكن أنا مع المفتي فلان! فنقول له: لماذا لا تزنها بالكيلو على مذهبك؟ فالمفروض أن كل هؤلاء يكونون على حق، وأنه يكون على ضلال إذاً: لماذا قلبنا المسألة هنا؟ لأنه صار فيها هوى، ولذلك ليس للعوام مذهب إلا الهوى.
فإخوة يوسف عندما جاءوا قسموا هذه القسمة، واتهموا أباهم بالضلال، لم يتفطنوا لمقياس الأب في الحنان.
نعم بالنسبة للعدل المادي يجب عليه أن يعدل، وكذلك ينبغي عليه أن يعدل حتى في القبلات، لكن قد يقوم مقتضى يمنع دون ذلك، ولا يكون من الظلم، ولد عاق يشتم أباه ويضربه، شيء طبيعي أن الوالد ينفر منه ويكرهه ويدعو عليه، فهل تريد أن تسوي بين هذا العاق، وبين الذي جعل خده مداساً لوالده؟ لا، لا يستويان مثلاً أبداً.
فعندما يوصل الحنان والعطف لهذا ويمنعه عن ذاك؛ فإنما فعله لقيام مقتضى، لكن إذا لم يكن هناك مقتضى فالأصل العدل بين الأولاد في كل شيء.
(جاء بشير -والد النعمان بن بشير رضي الله عنهما- إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يخص النعمان بشيءٍ دون إخوته، فقالت امرأته: لا والله؛ حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فذهب بشير بابنه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: يا رسول الله! إني أريد أن أنحل ابني هذا نُحلاً -أي: أعطيه عطاءً- قال: أكل ولدك أعطيت -أي: مثل النعمان -؟ قال له: لا.
قال: أشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على جور، اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، ثم قال له: أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم.
قال: فاعدل بينهم) لأنه حين يرى الأخ أخاه الآخر هو المحبوب، وهو الذي يأخذ كل شيء، فمن الطبيعي أن يحقد على أخيه وأبيه، ولا يوصل البر لأبيه، فلذلك نبهه النبي عليه الصلاة والسلام تنبيهاً لطيفاً بما جبل عليه، فأقامه كالدليل على ما يريد، قال: (أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم.
قال: فاعدل بينهم) لماذا؟ لأنه {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، تعطي عدل تأخذ بر، لكن تعطي ظلم وجور وتنتظر البر؟ لا.