إن حربنا مع أعدائنا -الذين يجب علينا أن نبغضهم غاية البغض لأنهم كفروا بالله عز وجل- ليست اقتصادية ولا سياسية ولا اجتماعية، إنما هي حرب عقائد، كذا قال الله عز وجل، كل حرب مع عدو لنا القصد منها أن نكفر بالله، أن نرتد عن ديننا، كذا قال الله عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109]، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118]، وقال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، وقال تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2].
هذه الآيات ناطقة بأن رجاء كل الذين كفروا أن يرتد المسلمون على أدبارهم، إذاً: ليست حرباً سياسية ولا اقتصادية ولا اجتماعية، بل هي حرب عقيدة، ولذلك تجد أي مستعمر لأي بلد أول شيء يحرص عليه أن ينشر لغته؛ لأنه لا يتم نشر الاعتقاد ولا فهم المعتقدات إلا باللغة، وتجد هذا واضح الأثر حتى الآن، فاللغة الأولى في بلادنا ما هي؟ لا تقل لي اللغة العربية، فهذا حبر على ورق، مثلما يقال في الدستور: الدين الرسمي للدولة الإسلام هذا غلط، الدين الرسمي للدولة هو القانون، لا الإسلام، هذا هو الواقع، دعنا من الحبر المكتوب على الورق، فهذا كلام لا يساوي المداد الذي كتب به، الواقع أن اللغة الأولى في بلادنا هي اللغة الإنجليزية، وليست هي اللغة العربية، فاللغة العربية مظلومة، ومدرس اللغة الإنجليزية يحظى باحترام وتقدير لا يجده حتى مدرس اللغة العربية.
وحافظ إبراهيم له قصيدة رثائية رائعة، اللغة العربية ترثي نفسها، يقول فيها على لسان اللغة العربية المهضومة: وسعت كتاب الله لفظاً وآية وما ضقت عن آي به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي حتى الآن وما زالت مشكلة تعريب الطب مشكلة المشاكل، كيف تقاعسوا عنها حتى الآن، ولا نعلم أن هناك بلد تحترم هذا التعريب إلا سوريا ومن جرى مجراها من البلاد العربية، ولا زالت بعض المصطلحات الكافرة موجودة حتى الآن ينطقها المسلمون ويعجزون عن تغييرها، مثل أن يقال: عيب خلقي {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك:3] فهل يقال عيب خلقي؟! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في ظهره انحناء، فجعل الرجل يخفي هذا بثوبه، فلحظه النبي صلى الله عليه وسلم فناداه، وقال له: (يا فلان! كل خلق الله حسن).
الأمم المنتصرة تفرض نفسها وتفرض مصطلحاتها على الأمم الضعيفة، فنتكلم بالكلام الكفري باسم المصطلحات العلمية، ونعجز عن تغييرها لماذا؟ لأنه ساد المصطلح، وصار معروفاً للأساتذة الكبار والتلاميذ الصغار، فلو قلت له: ماتقول في كذا -وسميته اسماً من عندك-؟ لا يعرف الطالب ماذا تريد، مع أن الدنيا كلها تشهد أننا اخترعنا الطب، وهم أخذوه منا، ونحن أولى به، وبضاعتنا يجب أن ترد إلينا، لكن هذا القهر اللغوي غلبنا في كل شيء.
المغرب العربي اللغة الرسمية فيه هي الفرنسية، وقد قابلت كثيراً منهم في الحج والعمرة ولا يتكلمون العربية إلا بصعوبة، بل أقول لكم شيئاً رأيته بنفسي، لما سافرت إلى أسبانيا وأنا طالب، وجعلت أبحث عن مسجد لأصلي فيه الجمعة، ظللت أسبوعين أبحث وأسأل كل من ألقى: أين المسجد الموجود في مدريد؟ وبعد بلاء وصعوبة قالوا: المسجد في الشارع الفلاني، فذهبت وأنا أظن أنه مسجد له مئذنة أو مسجد كبير على وجه الأرض، فقابلت رجلاً على قارعة الطريق فسألته: أين المسجد الذي هنا؟ فبصق في الأرض ومضى، فذهبت إلى عنوان وصف لي، فلما وصلت ذهبت إلى استعلامات العمارة وأنا خائف أن يبصق الرجل أيضاً، فسألته وأنا وجل: هل يوجد هنا مسجد؟ قال: انزل هذا البدروم، نزلت تقريباً ستة عشر درجة، فوجدت شقة مؤلفة من غرفتين وصالة ووجدت بها مجموعة مكونة من حوالي مائة رجل يصلون الجمعة، كلهم يتكلم بالعربية وينتمون إلى جاليات عربية، وأغلبهم من الشام.
فجعلت أتكلم بالعربية معهم، وأردت أن أتكلم مع ولد بجواري فرفض، وتكلم بالأسبانية، ففرحت وكدت أطير، حيث وجدت بغيتي أخيراً وجدت مسلماً أسبانياً في بلد ظل الإسلام فيه ثمانية قرون -ثمانمائة سنة- فلما تكلمت معه أُسقط في يدي إذ لم يكن أسبانياً، ولكنه شاب مغربي لا يعرف حرفاً من اللغة العربية! فاللغة الرسمية في بلاد المغرب العربي هي اللغة الفرنسية، وهكذا فإن الاستعمار أول ما يدخل يبدأ ينشر لغته؛ لأنه إنما ينشر اعتقاده باللغة، وكل الحروب الدائرة بيننا وبين الكفار حرب معتقدات، وليست حرب اقتصاد ولا سياسة ولا هيمنة أبداً، إنما هي حرب معتقدات كما قال الله عز وجل: ((وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا)) [النساء:89]، كل المسألة أنهم يريدوننا أن نكفر كما كفروا.
فهل نوالي مثل هؤلاء؟ هل نلقي إليهم بالمودة؟ إن الولاء والبراء هو الأثر الطبيعي لصدق الانتماء، وإن الكافر إذا ظهر لا يدعك أبداً، {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8]، {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10]، وقال في الفتية الذين آمنوا وهربوا إلى الكهف: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20]، هذه طبيعة ظهور الكافر على المسلم.