وبعد سنوات جاء إبراهيم عليه السلام، وقال لابنه إسماعيل: إن الله أمرني أن أبني البيت هنا، أفتعينني؟ قال: نعم.
بعد أن قال: افعل ما أوصاك الله به، وإسماعيل عليه السلام له موقف مشرف وغير هذا، كما هو وارد في قصة ذبحه، عندما قال له أبوه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
وفي هذا درس لنا ينبغي على الآباء أن يهضموه لكي يخرجوا ذرية طيبة من الأولاد وهذا الدرس في قوله: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]، فهذا حوار، وإشراك الولد في اتخاذ القرار، ما رأيك؟ قل لي رأيك في الموضوع؟ لا تقل: إنما هو ولد صغير، فالولد كبير لكنك أنت الذي تصغره، فيكبر وليس له شخصية.
لكن إبراهيم عليه السلام يشارك ولده في القرار، فيرد الصغير: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
والولد ينشأ على ما عوده أبوه وما رباه عليه أهله.
وهذا محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية وحقق الوعد الأول للرسول عليه الصلاة والسلام كانت أمه تأخذه كل يوم وهو صغير إلى النهر، وتكلمه عن الشاطئ الآخر، وتحدثه أن الشاطئ الآخر أحد الأماني الذي يسعى المسلمون إلى فتحه وكل يوم يتفرج على الماء وهي تمنيه وتقول له: نريد أن نعبر ونصل إلى الشط الآخر، وكان يكبر كل يوم ويكبر فيه هذا المعنى، فكبر محمد الفاتح وعنده هذه العاطفة، عاطفة النهر حتى صار شيئاً أساسياً في حياته، فصدق فيه قول القائل: (وراء كل رجلٍ عظيم أم).
وليس كما يقولون: امرأة.
بل هناك نساء دمرن رجالاً تدميراً.
مثل أم محمد الفاتح، ومثل أم سفيان الثوري، فقد كانت تقول له: يا بني! اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي، تشتغل بالمغزل وتبيع الغزل لكي تصرف على ابنها الذي يطلب العلم، ووراء الشافعي أم علمته العلم وكانت أيضاً تغزل، وكانت تنفق عليه.
فنشأ محمد الفاتح على هذا الحلم والأمنية حتى صار حقيقة.
فالواجب على الآباء والأمهات الاعتناء بتربية أولادهم وتنمية عقولهم، ومشاركتهم في المشاكل والحوادث؛ لكي يتعلموا معنى الرجولة الحقة، عليهم أن يقدموا تنمية عقولهم على الأكل والشرب والملبس.
فإبراهيم عليه السلام كان يشرك ولده في القرارات والملمات كما قال تعالى حاكياً عنه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]، أي: أرنا كيف تري الله من نفسك؟ أرِ الله من نفسك خيراً ولا تنكص على عقبيك، فيرد الولد، ويقول: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102]، كان في كلامه التسليم.
تؤمر: فعل لما لم يسم فاعله: أي أن هناك آمر، يعني: هذا ليس بملكك ولو كان بملكك ما ذبحتني، لكن هذا أمرٌ لا دخل لك فيه، فأول شيء تفطن له إسماعيل عليه السلام، في إحالته أن والده مأمور: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ)، قال إن شاء الله، ولم يقل: ستجدني من الصابرين، إنما قال: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ)؛ لأنه لم يركن إلى نفسه، ولم يعتمد عليها، ولم يثق بها، إنما استثنى، وفوض أمره إلى الله.
وهناك قصة لأحد العباد الزهاد ويسمى سيمنون الزاهد، كان يقول: يا رب! ابتلني وسوف أريك.
-أي: سأصبر على البلاء- فحبس الله فيه البول، فتمرغ بالتراب وقال: يا رب! يا رب! فرّج عني، يا رب! أزل العذاب، لم يتحمل البول محبوساً بداخله، فعافاه الله، فكان هذا العابد يذهب يطوف على الكتاتيب، ويقول للأطفال الذين يحفظون القرآن: استغفروا الله لعمكم الكذاب.
فلا تثق بعزيمتك؛ فإن العزائم تنفسخ، والإيمان يزيد وينقص.
ولكن قل: إن شاء الله.
فأنت قد تقرأ قصة لأحد الأبطال كأن تقرأ قصة أحد المجاهدين من الصحابة، فتحس أنك لبست الشخصية وتقمصتها، حتى إنه لو جاءوك وقطعوك إرباً إربا لا تتأوّه؛ لأنك ما زلت متحمساً وتقرأ في القصة، وتعيش هذا الدور، وفي هذه اللحظة إيمانك مرتفع، ولو جاءوا بك وآذوك فلن تستكين لهم، لكنك لا تدري بعد أن تقرأ القصة ويمضي الوقت ما يحدث، فعند أول كربة قد تصرخ: ارحمونا، ارحمونا.
فإسماعيل عليه السلام، يقول: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ)، يعني: أنا لا أثق بعزمي، وأنا ما عندي من قوة فهي من الله تبارك وتعالى: فخلع الحول والقوة في كلامه، قال: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).
وختاماً: لهذه القصة نقول: إن قصة إبراهيم عليه السلام، تدور على ثلاثة هم: إبراهيم، وابنه إسماعيل، وأمه هاجر.
فكن قوي العزم وتأس بالرجال؛ إذا أردت الأسوة: إبراهيم عليه السلام، فإن نزل عزمك، فتأس بالصبيان تأس بإسماعيل عليه السلام، فإن نزل عزمك، أفلا تتأسى بربع رجل، وهي هاجر عليها السلام، وأنت تعرف أن المرأة الحرة، نصف الرجل، والأمة نصف الحرة، أي: ربع رجل، وتثبت وتعتمد على الله عز وجل بقلبها، وتسكن في بيداء مكة وحدها، وهي موقنة أن الله عز وجل لن يضيعها.
فلابد لك من أسوة، والله يقول: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4]، وهؤلاء هم أسرة إبراهيم عليه السلام.
ونحن نحتاج في عصرنا هذا إلى أمثال هؤلاء الرجال، أزمتنا أزمة رجال، وليست أزمة موارد أبداً، إن الله عز وجل جعل الخير في بلاد المسلمين، لكننا نحتاج إلى رجال، رجال من معادن الرجال الذين مكن الله عز وجل لهم في عشر سنوات.
اقرأوا تاريخ البشرية من لدن آدم عليه السلام إلى زماننا هذا، لن تجدوا أقواماً مكن الله عز وجل لهم، وصنعوا دولة في عشر سنوات إلا الصحابة، فقط، دولة عشر سنوات فقط، يعني من ساعة ما هاجروا إلى المدينة، إلى أن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، عشر سنوات صنعوا دولة ودانت لهم فارس والروم، وما مات النبي صلى الله عليه وسلم إلا وكلمة الله هي العليا؛ لأنه كان عنده أمثال هؤلاء الصحابة الكرام الأفذاذ.
إذاً: أزمتنا أزمة رجال، فهذا الحديث فيه بحث عن الرجال أصحاب القيمة.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.