نقول بملء الفم: إنه لم يحظ نبيٌ قط من أنبياء الله بعشر معشار ما حظي به نبينا عليه الصلاة والسلام، ولا نعلم نبياً رزق بأصحابٍ أوفياء نقلوا كل شيءٍ عنه؛ لتتم الأسوة به غير نبينا عليه الصلاة والسلام، فما من بابٍ من أبواب العلم إلا وفيه أثر، مهما دق، حتى فيما يفعله الناس فطرة، ولا يحتاجون فيه إلى تعليم، كقضاء الحاجة مثلاً، قال اليهود لـ سلمان رضي الله عنه: (إن نبيكم علمكم كل شيءٍ حتى الخراءة؟ قال: نعم، علمنا: أنه إذا دخل أحدٌ الخلاء ألا يمس ذكره بيمينه، وأن يستطيب بثلاثة أحجار)، حتى في مثل هذا الأمر، حتى في إتيان الرجل شهوته، حتى في الأكل والشرب ما ترك شيئاً، وكانت أعينهم (كالكاميرا المسجلة) يقولون: (كنا نعرف قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر باضطراب لحيته) وحتى لما قرأ في سورة المؤمنون فجاء ذكر موسى وهارون سعل سعلةً فركع، أنه سعل سعلةً فركع.
ويخرج جابر بن سمرة خصيصاً من بيته في ليلةٍ قمراء ليعقد مقارنةً بين القمر وبين وجه النبي عليه الصلاة والسلام، وخرج من بيته لأجل هذا، يقول: (خرجت في ليلةٍ قمراء إضحيان -كان القمر تاماً- فجعلت أنظر إلى القمر تارة، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة، فكان في عيني أجمل من القمر)، ويسجل مثل هذا الحب.
ولهم في ذلك أعاجيب في مسألة النقل، بحيث أن الأمر كما قال أبو ذر رضي الله عنه: ما من طائرٍ يقلب جناحيه في السماء إلا وعندنا منه علم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ونقلوا السنة على أوثق راءٍ من الإحكام والاتصال في السند، والدقة في الضبط والحفظ.
فالنصارى لا يصلون إلى عيسى عليه السلام بإسنادٍ متصلٍ أبداً، ولا يصلون إلى أصحاب نبيٍ أصلاً، والانقطاع في الأسانيد عندهم قد يصل إلى مائة عام، انقطاع بين الرجل وبين شيخه، بين الذي تلقى عنه الكلام، قد يصل الانقطاع إلى مائة عام، إنما نحن معاشر المسلمين نقلنا سنة نبينا عليه الصلاة والسلام على أوثق القواعد العلمية، وتعب العلماء في تقريب هذه القواعد كعادة الأصول، الأصول مثلها كمثل هذا الجدار في الترابط والتماسك والقوة، فكل عالم يضع لبنة ويمضي، فهذا الجدار ليس نتاج فكر عالم واحد، إنما هو نتاج فكر مئات؛ بل ألوف العلماء الأذكياء، النابهين، فنقلوا السنة، ووضعوا لنا الشروط والضوابط لقبول الأفراد.