في غزوة حنين اختصموا على الغنائم أيضاً، لما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم، والعامة الذين تأخر إسلامهم، وترك المؤمنين الخلص الذين أبلوا بلاءً حسناً في القتال، فالشباب لم يعجبهم هذا الكلام، وقالوا: يعطي قريشاً وسيوفنا تقطر من دمائهم، ما هذا بالنَّصَف.
يعنون أن هذا ليس إنصافاً، المفروض أن الذي قاتل وضحى بنفسه هو الذي يأخذ المال، والمؤلفة قلوبهم لم يبلوا بلاءً حسناً، ثم إذا به يعطيهم الأموال فما هذا بالنَّصف.
بلغت هذه الكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعالجها علاجاً حكيماً، فلم يعاتب ولم يعنت، إنما دعا الأنصار، وقال: (يا معشر الأنصار! مقالة بغلتني عنكم، أنكم قلتم كذا وكذا.
فقال كبراء الأنصار: أما الشيوخ فلا) أي: الكبار، الناس الذين أسلموا قديماً ما قالوا هذا الكلام، قالوا: إنما قاله بعض صغارنا.
فجمعهم وقال: (هل فيكم أحدٌ من غيركم؟) وهذا كله من أجل أن يبين الحظ والقسم الذي أصاب الأنصار، كأنه لا يريد أن يكون أحدٌ من غير الأنصار يدركهم في هذا الذي سيقوله، (قالوا: لا.
قال: يا معشر الأنصار! ألا تحبون أن يرجع الناس إلى رحالهم بالدينار والدرهم، وترجعون أنتم برسول الله تحوزونه في رحالكم)، عندما تخير بين مال أو يبقى الرسول معك؛ ماذا تختار؟ لا يتردد مثل الأنصار، ولا يتردد أي مسلم أن يلفظ بها حتى لو انعقد قلبه على خلافها، لا يستطيع إلا أن يقول: نعم، أرضى برسول الله قسماً، حتى لو كان قلبه يأباه، لكنه لا يجرؤ على النطق بها.
الناس رجعوا بالدينار والدرهم والمغانم، وأنتم رجعتم برضا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنكم، ومحبته لكم، ودعائه لكم، (فبكوا جميعاً، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً.
قال: اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار)، هذا هو الذي حازه الأنصار حقيقةً، أما الدينار والدرهم فليس له قيمة.
كان في زمان الأئمة الكبار والتابعين أناس لديهم أموال لا تقدر، الآن ماتوا وماتت أموالهم، ولا نعلم عنهم شيئاً، ولم يبق إلا أهل الآخرة، هم الذين يذكرون على المنابر وفي الجلسات ويترضى عنهم، كم من غني كان في زمان الإمام أحمد أو الإمام البخاري لا نسمع عنه شيئاً، وكان الإمام أحمد رجلاً فقيراً، وكان الإمام الشافعي رجلاً فقيراً، مات أصحاب الأموال التي هي بالمليارات ولا نعلم عنهم شيئاً، وما بقي إلا هؤلاء.
ماذا يعني أن معك ديناراً أو درهماً؟! هؤلاء معهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المستجابة: (اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار، ثم قال لهم: الأنصار شعار والناس دثار) يا لها من بشرى! ويا له من عطاء لا يقبله إلا أهل الإيمان ممن اتجهت قلوبهم إلى الآخرة! (الأنصار شعار) والشعار هو اللبس اللين الداخلي الذي يلاصق جسدك مباشرة، هذا اسمه شعار.
والثياب العليا اسمها دثار، فممكن الإنسان أن يلبس الدثار، والدثار صوف خشن، لكن لا يستطيع الإنسان أن يلبس صوف الغنم على جلده، فكأنه قال: أنتم أقرب إليّ كقرب هذا الثوب الناعم للجلد.