الجهاد لإعلاء كلمة الله

الجهاد إنما شُرعَ لإعلاء كلمة الله، وأهل الأرض ثلاثة: إما مسلم أو كافر أو منافق: مسلم لا يتوجه له إلا نصرة الدين والإسلام؛ لأنه هو المخاطب في النصوص، فما بقي غير صنفين: الكافر والمنافق، قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) (الناس) في الحديث هم الكفار والمنافقون، فالمنافق يظهر كلمة الإسلام ويبطن الكفر حتى يستبقي دمه وماله ويعيش بأمان، فهذا المنافق تلقائياً سينضم إلى المسلمين.

إذاً: من الذي بقي؟ الكفار، فيقال لهم: ادفعوا الجزية وخلوا بيننا وبين الناس، إذ لا يجوز لأحدٍ أن يحجب الحق عن أحد، ونحن لا نقنع الناس بالضرب، نحن نعرض الحجة، فخلوا بيننا وبين الناس وادفعوا الجزية، إذا قالوا: نحن موافقون على أن ندفع الجزية فستضع الحرب أوزارها، لأننا لا نقاتل الكافر طالما أنه يدفع الجزية، وطالما أنه وافق على الشروط.

وإذا قال: أنا لا أسمح لك أن تنشر دينك، ولا أن تنشر الحق الذي تعتقده، ولن أدفع الجزية؛ حينئذٍ ما بقي إلا الحرب، لأنه صد عن سبيل الله.

ليس الجهاد أن يخرج المسلمون من ديارهم لمجرد خاطر خطر على بالهم أن يخرجوا ويستولوا على الأموال ويقتلوا الناس بلا هدف، هذا لم يحدث في تاريخ الإسلام قط، إذاً الجهاد إنما هو لإعلاء كلمة الله.

ثم إن جهاد العدو في الخارج يسبقه جهاد المنافقين، وجهاد النفس؛ لذلك لا يزال سيف المسلمين كليلاً مع العدو الخارجي حتى يحققوا مواطن الجهاد الثلاثة التي تسبق جهاد العدو الخارجي، ومنها جهاد النفس، وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث فضالة بن عبيد الذي رواه أحمد وابن حبان والحاكم: (من المؤمن؟ قال: من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم.

قالوا: ومن المسلم؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده.

قالوا: من المجاهد؟ قال: من جاهد نفسه في ذات الله أو في طاعة الله.

قالوا: من المهاجر؟ قال: من هجر الخطايا والذنوب).

إذاً: المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله.

بيوتنا مليئة بالمخالفات.

نريد أن ننتصر ونكون جادين، ونظن الطريق غير طويل، البعض يقول: الطريق طويل، وأنا حتى أربي نفسي وأربي عيالي، سأكون قد مت أنا وعيالي، نقول: نعم يا أخي! مت متعبداً لله، إن الذي يزرع النخل لا ينتظر نتاجها، وإذا قيل له: لم تزرع النخلة وهي لن تعطيك البلح ولن تنضج إلا بعد عشر سنوات أو بعد سنوات؟! يقول: كما زرع أجدادي وأنا آكل من غرسهم، كذلك أزرع حتى يأكل أحفادي من غرسي.

إذاً: أنت تورث العبودية، هي هذه الجدية في الجهاد.

ونحن قصرنا في أن نأخذ الأمر بمأخذ الجد، لا تقل: إن الدنيا كلها مخالفات وأنا فرد؛ فإن الله عز وجل نصر أهل بدر وهم أذلة، والمسألة واضحة: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126].

لو أن هناك مائة من طراز أهل بدر لفتحنا الأرض المحتلة، مائة من ذلك الطراز النفيس الذين نوه الله بهم في مطلع السورة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [الأنفال:2]، و (إنما) عند أكثر العلماء تفيد الحصر: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، والوجل هنا ليس المقصود به الخوف المحض المجرد، بل المقصود به: الخوف الذي يخالطه شوقٌ ومحبةٌ وتعظيم، فليس خوفاً مجرداً، بل هو ما يعتري القلب من الوجل عند سماع من يحب.

كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه أحدٌ ممن يمت إليه بصلة، ولو كان قريباً لمن يحبهم، كما كانت أخت خديجة رضي الله عنها، كان يصيبه مثل هذا، طرق عليه الباب يوماً فسمع صوتاً قال: (اللهم هالة) وهو في الصحيحين - البخاري ومسلم - قال: (فارتاع لذلك) أي: نبض قلبه بشدة لمجرد أنه سمع الصوت الذي يُذكِّره بمن يحب، فارتاع لذلك، واللفظ الثاني: (فارتاح لذلك، وقال: اللهم هالة) فالوجل ليس خوفاً مجرداً، إنما هو خوف مع حب.

{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]، وهذا هو عامل الحب في الوجل، يسمع كلام من يحب فيزداد شوقاً، ويزداد تعلقاً، ولله المثل الأعلى.

مثل إنسان يكون له حبيب وأرسل له خطاباً، وهو كل يوم يفقد من قلبه شيئاً شوقاً لهذا الحبيب، وبين الحين والحين يُخرج الخطاب ليقرأ منه، ويظل يتأمل الحروف، ويقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ستمائة مرة، ويقرأ (إلى فلان الفلاني) لاسيما إذا ذكره بلفظ المحبة: إلى حبيبي، أو: (إلى عزيزي)، أو: إلى قرة عيني، يظل واقفاً عند هذه الجملة لا يريد أن يقرأ غيرها، ويسرح في الماضي وأيام اللقاءات، وأيام الجلسات الجميلة والطيبة، فيزداد شوقاً على شوق، ويعد الأيام والليالي، بل الثواني متى يلتقي بحبيبه! كذلك حال الذين يحبون الله تبارك وتعالى، مع الخوف منه، وعدم التجرؤ على حدوده، بل عدم الاستطاعة أن يفكر أن يتجرأ، هذا الذي خالط قلبه هذا الوجل -الذي هو الخوف والحب المخلوط- إذا قرأ آيات الله ازداد محبة، فإذا قال الله عز وجل له: (اقتل روحك، يقول: حباً وكرامة) كما في الصحيح أن عمير بن الحمام لما أصابه سهم قال: فزت ورب الكعبة، يقول: فزت؛ لأنه متحقق، يريد أن يلقى ربه تبارك وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا).

إذاً: الحاجز بيني وبين رؤية ربي أن أموت! فقال عمير: إنها لحياةٌ طويلة حتى آكل هذه التمرات، فقاتل حتى قتل.

{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]، مثل هذا لا يخالف لا في قليل ولا في كثير، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015