الناصية: هي الشعر الذي في مقدم الرأس: {يؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41] فالناصية: التي يؤخذ المرء بها، مثل الجمل الأنق، إذا وضعت الحلقة فمه الجمل فإن أصغر ولد يسحب هذا الجمل الطويل العريض، فهذا شأن الناصية عندما تؤخذ، فيكون الإنسان بعدها مسلوب الإرادة، لا يستطيع المشي، والناصية إشارة إلى التفكير.
والأقدام هي الموجه، فإذا أخذ بالقدم لا يستطيع المرء السير، كما قال تبارك وتعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30]، ومعنى {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] أي: رجل متعسر الخطو إلى الله، كالرجل الذي يمشي فالتفت ساقه وهو يمشي، فيسقط على الأرض مباشرة، هذا هو معنى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29]، لا أنه إذا مات التفت ساقاه، لا.
نحن نرى الموتى الساق بجوار الساق، فلا تلتف ساق على ساق لا في خروج الروح ولا بعد الموت، وإنما المعنى: أن هذا رجل متعسر الخطو إلى الله، ويدل على هذا تتمة الآيات: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32] فبأي وجه يلقى ربه تبارك وتعالى، فهذا متعسر الخطو، فالأخذ بالأقدام عجز عن المسير فقوله:.
(ناصيتي بيدك) أي: أنا لا أتوجه إلى وجهة إلا بإذنك، وينبغي على العبد أن يتوجه إلى الله من تلقاء نفسه لا يجر جراً، إن الذي يجر إلى الله جراً لا خير فيه، بل السماء خير منه؛ لأن الله عز وجل قال للسماوات وللأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، وقال تعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56].
فمعنى (ناصيتي بيدك) أي: أني لا أملك من أمر نفسي شيئاً، وهذا هو المناسب لمفتتح الدعاء: (أني عبدك وابن عبدك وابن أمتك) فما يتصور أن يكون له اختيار مع الله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] وهناك حديث موضوع يذكره الخطباء والناس بخصوص هذا الشأن وهو: (عبدي! أنت تريد وأنا أريد، ولا يكون إلا ما أريد) وهذا كذب، لا أقوله وأنسبه إلى رب العالمين، وإنما فحوى النصوص تؤيده، وهذا معنى ناصيتي بيدك، (عبدي أنت تريد وأنا أريد ولا يكون إلا ما أريد، فإن سلمتني فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلمني فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ولا يكون إلا ما أريد) وهذا الكلام حق في معناه؛ لأن النصوص كلها تؤيده، لكن لا أنسبه إلى رب العالمين كقول، والقرآن والسنة مليئان بهذا، بأن الله عز وجل إذا أراد أن يذل عبداً رزقه بشيء، وجعل تلفه فيه، وأهلكه به.
إن كثيراً من الناس الذين لم يرزقهم الله عز وجل الولد يتقلبون على جمرات الغضب، ويبيتون يرعون النجوم: اللهم ارزقنا ولداً، فإذا لم يرزقهم الله الولد، يتكدر خاطرهم لذلك، مع أنه قد يرزق بالولد ويشقى به إلى أن يموت، ويشقى به، أي: يحبه غاية الحب، وبعض الناس يحبون أولادهم إلى درجة أنهم يمنعونهم من الخروج إلى الشارع، فيعذبونهم بذلك، وهذا الولد في آخر المطاف لابد أن يسعى في الناس ويتعامل معهم، فإذا مات أبوه ولم يأخذ منه الخبرة في كيفية معاملة الناس شقي فيهم، وعاش حياته كلها شقياً، فبعض الآباء أحب ابنه غاية الحب حتى أنه سلب عقله فلا يستطيع أن يعمل عملاً حتى يتصل في كل وقت ويقول: هل خرج الولد؟ لعل سيارة تصدمه، أو يضربه الأولاد، وحياته كلها كذا، ولما كان وحده كان خالي البال، وكان أفضل من ذلك.
فلذلك شرع لنا النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما نكره أن نقول: (قدر الله وما شاء فعل) أي: ما شاء فعل وهذا قدره، فكل شيء يكون في هذه الدنيا إنما يكون على وفق ما أراد الله، فإياك أن تضع اختيارك في مقابل اختياره فتشقى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] إذا اختار لك فلا تختر لنفسك، فإنك لا تدري ما تحت شراك نعلك.
كثير من الناس الذين يخرجون ويموتون أو يصابون بمصائب لم يخطر ببالهم قط أن يصابوا، والخير أقرب إلى شراك النعل والشر كذلك كما قال عليه الصلاة والسلام، فإذا سلم العبد بأن ناصيته بيد الله تبارك وتعالى سهل عليه ما يأتي بعد ذلك من حكم الله عليه وقضائه.