وقوله صلى الله عليه وسلم: (ماضٍ فيَّ حكمك) لا يستطيع أحد أن يرد قضاء الله عز وجل وحكمه الذي نفذ: {قَوْلُهُ الْحَقُّ} [الأنعام:73] {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص:84] أي: لا أقول إلا الحق، لكن بعض الناس يقول عن نفسه: (الحق والحق أقول) وهذا خطأ، فلا يجوز لبشر أن يقول عن نفسه هذه العبارة؛ لأنه ما من إنسان إلا وكلامه يشتمل على بعض الباطل، {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص:84] أي: لا أقول إلا الحق، وهذا لا يقوم به إلا رب العالمين ورسله، أما الذي لم يعصم فإن كلامه يشتمل على بعض الباطل وإن كان رجلاً فاضلاً.
والذي يجري في المحاكم الآن من المعارضة والاستئناف يدل على أن القاضي الأول لما حكم ما تحرى العدل، فيضع أقصى عقوبة حتى وإن كان الجرم لا يستحق ذلك، لأن هناك استئنافاً للحكم، وبعدما يحكم عليه بالإعدام يكون براءة، كيف هذا؟ لأن عندنا مسألة النقض والإبرام، والأصل أن يجتهد القاضي في الحكم وفي النظر إلى أصول الشريعة، وبالنظر إلى دوافع الخصم، ويدرس القضية دراسة جيدة ثم يحكم، هذا هو الواجب، لكن هذا بداية يقول: أطالب بالإعدام!! لماذا؟ لأنه يعرف أن هناك مسألة أخرى، والمحامي يقول لهم: هذا حكم ابتدائي، أي: باطل! فالقاضي ألقى الكلام على عواهله؛ لأنه يعلم أن هذا الحكم سينقض، أو سيخفف، إذاً: لم يكن محقاً عندما تكلم بهذا الكلام، أما رب العالمين فحكمه ماضٍ؛ لأنه {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] لا استئناف ولا نقض ولا إبرام، كل هذا لا يوجد عند الله تبارك وتعالى.
ولذلك إذا ظلمت في الدنيا أخر الحكم للملك تبارك وتعالى؛ مع أنها مرة، لكن سوف تنصف غداً، ومع ذلك أقول لك: لن يمضي خصمك في الدنيا بسلام، فالظالم لا يظلم رجلاً واحداً.
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعله لا يظلم وهذا كلام المتنبي، يقول: (الظلم من شيم النفوس) إلا إذا أوّلنا الكلام بأن هذا أصل الإنسان؛ أي: أن المرء خلق ظلوماً، وهذا حق، فقد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] فأصل الإنسان أنه ظلوم لنفسه، لا يظلم لأنه رجل في نفسه، وإنما هناك علة منعته من الظلم، والعلل عند الناس كثيرة، فأهل الإيمان العلة العظمى عندهم: مخافة رب العالمين، وكفى بها علة شريفة يشاد بها، والإنسان لا يظلم؛ لأنه يخاف الله، وآخر لا يظلم؛ لأنه لا يقوى على إيصال الظلم والانتقام فهو عاجز، فيسكت، أو أن له مصلحة، فهذا الظالم لا يظلم نفراً دون نفر وإنما ظلمه فاشٍ، فإذا تركت الدعاء عليه أصابه سهم آخر لمظلوم آخر؛ فلا بد أن يصاب.