كان من شأن أصحاب المدينة لما علموا بخروج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ما كان، ولكن من أين علموا؟ الإعلام في الجاهلية أسرع من الإعلام اليوم، بمعنى: لو قسنا سرعة انتشار الخبر على وسائل المواصلات في ذلك الوقت لكان أسرع، الخبر اليوم يحصل في مكان من العالم وفي نصف ساعة يعم العالم كله؛ لأن وسائل النقل تنقل عبر الأثير، لكن في السابق كانت وسائل النقل إنما هي الإبل، وكانت وسائل الإعلام هي: الشعر، والخطابة، والكلمة التي تنقل الخبر.
أما أهل مكة فقد سمعوا هاتفاً يهتف بهذا، ونرجع مرة أخرى للهاتف فقد نسينا أمراً ما: من أين جاء هذا الهاتف؟ تقول أسماء: رجل من الجن، وكأنهم كانوا معتادين مجيء هاتف يهتف، وهذا إما أن يكون فعلاً جنياً مؤمناً وإما أن يكون ملكاً.
وقد تكررت هتافات مؤمني الجن بخصوص الإسلام في عدة مواقف منها هذا الموقف، ونحن نعلم بأن الجن قد آمنت عند عودة رسول الله من الطائف حينما رأته قائماً يصلي، كما قال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29]، ومنهم من آمن، فلا مانع أن يكون هناك من مؤمني الجن من يتابع حالة رسولنا.
وكذلك في غزوة بدر سمعوا ليلة الوقعة هاتفاً يهتف: ألا فاخرجوا إلى مصارعكم يا بني فلان، فيسمعون الصوت ولا يرون القائل.
وقد حدث مثل هذا في انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وذلك أنهم لما أرادوا أن يغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ترددوا، كيف نغسل رسول الله؟ هل نجرده كما نجرد موتانا؟ فألقى الله عليهم سنة من النوم وسمعوا من ركن البيت صوتاً يقول: غسلوا رسول الله ولا تجردوه.
يذكر ابن كثير أيضاً: أنه في زمان عمر، لما كان سارية قائد الجيش في تركستان، كان عمر على المنبر يخطب، فإذا بالحاضرين يسمعون عمر يقطع الخطبة ويقول: يا سارية الجبل، ونجد البعض يشكك في هذه الرواية ويوردها على مقياس ليس مقياسها، ويزنها بميزان غير ميزانها، هل ميزان الحرارة يصلح لما يوزن بالكيلو جرام، أو ميزان الرطوبة يصلح في ميزان الحرارة، أو ميزان كثافة الحليب والدسم يصلح في ميزان الحرارة، أو مقياس ضغط الدم يصلح لقياس السكر في الدم؟ لا، فكل نوع له ميزانه الخاص.
فخوارق العادات حينما تعرضها على مقياس العقل لا يمكن أن يصدقها، فبعضنا قال: كيف يمكن أن يراه عمر وهو في تركستان؟ وكيف يسمع الرجل هناك صوت عمر بدون تلغراف أو تليفون؟ ولكن ما الذي يمنع أن يكون المولى سبحانه ينصر دينه ويعز جنده بأن يرسل إليهم هاتفاً يهتف، ويكون على صوت عمر ليسمعه الجيش ويلزم الجبل ويتحصن به حتى لا يأتيه العدو من ورائه، وما الذي يمنع الله سبحانه من أن يرسل إلى عمر أيضاً من يعلمه بالموقف فيقول عمر كلمته ويكلف الله من يحملها من الجن أو الملائكة، {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12]، إذاً: لا مانع إن صح الخبر، وإذا لم يصح يبقى كأخبار إسرائيلية أو أخبار تاريخية.