ونأتي لآخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي غزوة حنين: في سورة التوبة الآية الخامسة والعشرين، يقول الله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25]، فماذا كانت النتيجة؟ {فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25]، أي: بعد أن أعجبتكم الكثرة، ولم تغن عنكم شيئاً من موقفكم مع عدوكم، ضاقت عليكم الأرض ورحابتها، ووليتم مدبرين منهزمين ولم يبق إلا النبي صلى الله عليه وسلم العباس وبعض الرجال، وقال صلى الله عليه وسلم: (يا عباس! ناد أهل الشجرة).
فرجعوا إليه صلى الله عليه وسلم وهو ينادي ويقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) يعلن عن نفسه وسط المعركة وأصحابه منهزمون عنه.
فرجعوا إليه وأعادوا الكرة، وأخذ الحصى ورماها في وجوه الكفار، فنصرهم الله.
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} [التوبة:25]، منها: الغار، وبدر، والأحزاب، وهنا: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} [التوبة:25]، وأنتم قد أعجبتكم كثرتكم، ولكن لما دخلكم العجب بالكثرة، وظننتم بأن الكثرة معها النصر، حتى قال قائل: لن نغلب اليوم من قلة! وهل النصر بالقلة والكثرة؟! قال الله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249].
وهنا: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ} [التوبة:25 - 26]، (ثم) هنا للتراخي، يعني: بعد ما انهزمتم فعلاً وقال القائل: لن يرده إلا البحر، وقال آخر: بطل سحر محمد، وقال صفوان بن أمية وهو رجل على دين قومه، وكان مع رسول الله حمية ومعه أدراعه أعارها لرسول الله، يقول لأخيه: اضبط فاك لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن.
أي: يقودني ويسوسني، وربان السفينة هو الذي يقودها، ومن ذلك رب الدابة ورب البيت.
{ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:26]، هنا جاء: (وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) لأنهم فروا وانهزموا، فردهم بالسكينة، بعد تلك الهزيمة ينزل الله سبحانه السكينة على رسوله لثباته ووقوفه وسط المعركة ينادي: (إليَّ عباد الله، يا أهل بيعة الشجرة)؛ لأنهم كانوا منهزمين.
ثم {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:26]؛ لأن النصر من عند الله، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31].
نرجع مرة أخرى إلى الغار، وفي قوله سبحانه: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة:40].
ونحن الآن في هذه الآونة العصيبة، وفي هذا المد الطغياني، يجب أن نعلم أن هناك أموراً يجب مراعاتها على الباغي والمبغي عليه، والعادي والمعتدى عليه، وهي: أن ننادي العادي بأن يراجع نفسه ويرجع عن طغيانه، فإن قوى الشر الباغية مدحورة، والله سبحانه هو الذي يؤيد بنصره من يشاء، وهو الذي يهزم جند عدوه.
ونقول للفريق الثاني: عليك بتقوى الله، والرجوع إليه، فإن الله عنده عوامل النصر من سكنية وجنود لا نعلمها، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31].
ولعلنا أيها الإخوة نكتفي هذه الليلة بهذه المقارنة، وبيان عامل السكينة الذي أنزله الله على رسوله، وأثر هذا العامل في غزوات النبي صلوات الله وسلامه عليه كلها، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.