نأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنجد أول المواقف وأولى العوامل إنزال السكينة في بادئ الأمر في بدء الهجرة: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] بأي شيء؟ {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة:40].
ثم انظروا إلى إعجاز القرآن، {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة:40]، لاحظوا يا إخوان كلمة: (وَجَعَلَ) جاءت مع كلمة المشركين، أما في إعلاء كلمة الله، قال: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} [التوبة:40]، دون أن يأتي معها: جعل؛ لأن الجعل تصيير الشيء، تقول: جعلت القماش ثوباً، وجعلت العجين خبزاً، أي: صيرته.
فهنا في هذا الموقف إشارة إلى تلك المقارنة، (ثَانِيَ اثْنَيْنِ)، يواجهان (الَّذِينَ كَفَرُوا) هنا عند الغار، وهنا حدث إنزال السكينة على رسوله، وتأييده بجنود لم يروها، وفي تلك اللحظة جعل الله كلمة الذين كفروا السفلى، فصارت سافلة بجعل الله إياها كذلك.
إذاً: قبل هذا كانت متعالية تعالوا على رسول الله، وآذوا المسلمين، وأخرجوا رسول الله من بيته؛ فجعل الله كلمتهم سفلى؛ في ذلك الوقت، وكأن الغار كان نقطة تحول.
وكلمة الله هي العليا من قبل هذا، حتى لا يقول قائل: وجعل الله كلمته هي العليا بعد أن كانت سافلة، لا والله، هي عليا من أول يوم، ويكفي أنها من أول لحظة جاءت كانت دائماً وأبداً في ازدياد، كان النبي وحده معه خديجة، وعلي، وأبي بكر {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:29].
إذاً: هي عليا من أول يوم، ولهذا قال: (وَكَلِمَةُ)، بالرفع -وبهذا يعلم ضرورة معرفة الإعراب في كتاب الله- وأما: (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فهي مفعول به لـ (جَعَلَ).
ولكن (كَلِمَةُ اللَّهِ) مبتدأ ابتداءً لأنها العلياء.
قال: (وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ)، ما قال: وكلمة الله العليا، بل خصصها بالضمير المنفصل، (هي) للتخصيص لها دون كلمات الأعداء والأنداد.
بعد أن وجدنا أثر إنزال السكينة على طالوت بمجيء التابوت بها، نأتي إلى السكينة مع نبيه صلى الله عليه وسلم، وقلنا: أول نقطة في أول الأمر في الغار، والهجرة أول حدث فعلي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.