وبعد أن اجتمعوا عليه صلى الله عليه وسلم قالوا له: صف لنا بيت المقدس، وهم يعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يعرف بيت المقدس ولم يسافر إليه قبل ذلك، وأنه عندما خرج به عمه إلى الشام لقيهم راهب في الطريق وكان هذا الراهب يعرفه أهل مكة وينزلون عنده ويبيتون ويضيفهم، فكان يسأل ويقول: أبعث فيكم نبي؟ قالوا: ما سمعنا بهذا، فلما كان ذلك الوقت الذي مر فيه النبي صلى الله عليه وسلم صنع لهم طعاماً، وقال: احضروا مأدبتي، وما كان يفعل ذلك من قبل، فحضروا جميعاً، فلما نظر في وجوه القوم فلم يجد طلبته قال: أكلكم حاضر، قالوا: ما غاب عنا إلا غلام قال: ائتوا به؛ فلما جاءوا به وعرف علاماته قال لعمه: ماذا يكون منك هذا الغلام، قال: ولد أخي، قال: ارجع به ولا تذهب به إلى الشام إني أخاف عليه اليهود، فإنه سيكون له شأن.
يقول صلى الله عليه وسلم: (فلقد كربت كرباً شديداً) أي: لسؤال قريش؛ لأن لهم حق الطلب وهو ليس عنده الجواب لأنه دخله ليلاً فكيف يصفه؟ وهذا السؤال فيه دليل على أنه عليه الصلاة والسلام أُسري وعُرج به روحاً وجسداً في اليقظة.
الخلاصة قال عليه الصلاة والسلام: فكربت كرباً شديداً، فإذا بجبريل عليه السلام يرفع لي بيت المقدس فأراه وأنظر إليه.
وأخذ يصفه لهم بقدرة الله عز وجل.
ولا تسل: كيف؟ بل الواجب علينا أن نؤمن بذلك: هل انفرج له طريق في الفضاء، وأزيحت له الجبال، هل جيء به أمامه؟ هل أعطي القدرة على الرؤية عن بعد؟ كل هذا بقدرة الله، وكما أخبر صلى الله عليه وسلم، فقد جلاه له جبريل وأخذ ينظره ويديره ويقلبه ويصفه من كل جهة شاءوا.
فذهلوا وصدقوا وأيقنوا أن الوصف صحيح، لكنهم لم يصدقوا بأنه أُسري به في ليلة، ثم قال لهم: مررت بعير بني فلان وسمع حفيف البراق فند جمل لهم وانكسرت فخذه، ومررت بعير لبني فلان وكانوا نياماً واضعين ماءً في إناء مخمر بكذا فشربت الماء، ومررت بعير بني فلان تصل إليكم مطلع الشمس يقدمها جمل أورق وعليه غرارتان صفتهما كذا.
فخرجوا ينتظرون العير في الموعد الذي أخبرهم به، وفي تلك الساعة المحددة بطلوع الشمس إذا بالعير تخرج عليهم كما وصف صلى الله عليه وسلم.
وبعد فترة جاءت عير بني فلان، فسألوهم عن الماء، فقالوا: نعم كان لنا ماء في إناء مغطى وفي الصباح لم نجد منه شيئاً، ثم جاءت عير بني فلان فسألوهم عن البعير الذي ندّ وانكسرت فخذه، فقالوا: نعم والله في المحل الفلاني سمعنا صوتاً وما رأينا شيئاً؛ لأن الدنيا كانت ليلاً.
والحكمة من هذا الجمع بين بيت المقدس وبين البيت الحرام هي إعلام النبي عليه الصلاة والسلام أن تلك الأرض ستكون أرضاً إسلامية يفتحها الله على أمة الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام.
ولتكون رحلة الإسراء دليلاً على المعراج؛ لأنه لو عرج به عليه الصلاة والسلام من الكعبة مباشرة إلى السماء، فمن أين سيأتي لهم بعلامات وأدلة على صدقه، وهم أصلاً لا يعرفون السماء.