الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصبحه أجمعين.
أما بعد: أيها الإخوة: تقدم الكلام على موضوع الهجرة، وتقدم بيان أن الحديث يتناوله من عدة جهات، وذكرنا الدوافع والأسباب التي أدت إلى الهجرة، سواء كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، أو هجرة الأنبياء من قبله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وكان ملخص ذلك: اشتداد إيذاء الكفار للمسلمين، وتضييقهم عليهم، وعدم تمكينهم من أداء عبادتهم لله على الوجه المطلوب، ومعلوم أن الأرض كلها لله، والإسلام لا يعرف وطناً.
ثم ذكرنا من مقدمات الهجرة: خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وهو من الأسباب والمقدمات، وكان من أقوى المقدمات مجيء أناس من الأوس والخزرج كانوا يسمعون من اليهود بقرب مبعث نبي سينتمون إليه، ويقاتلون العرب معه ويستأصلونهم، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على العرب في مواسم الحج وفي أسواق العرب، فعرض نفسه على هؤلاء النفر وعرفوه، ثم رجعوا إلى المدينة وفشا الخبر بها، وفي العام الثاني تضاعف العدد، وكانت بيعة العقبة من المقدمات.
وأيضاً مما قوى ودعم تلك المقدمات: ما جاء في قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كانت الحرب بين الأوس والخزرج مائة سنة، كلما أخمدت اشتعلت، وما انتهت إلا قبل الهجرة النبوية بخمس سنوات، فكانت تهيئة لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم) لأنهم ملوا الحرب.
وفعلاً -يا إخوان- الحرب دمار وضياع، والمنتصر فيها خسران، وكما يقولون: الحرب في أوائلها تقبل كفتاة تدل بجمالها وبشبابها وبروائها، فتغري المغرورين الذين ينخدعون بزخرفها ومطامعها، وخاصة إذا كانت لديهم العدة والعتاد، فعند نشوة القوة لا يفكرون في العواقب، ولكنها بعد فترة تقف كعجوز شمطاء قد ذهب شبابها، وذبل رواؤها، وانطفأ جمالها، وتقوس ظهرها! ظلت الحرب بينهم مائة سنة، وملها الناس، وأخذ كل يبحث عن الخلاص، وكان اليهود إذا غُلبوا يتوعدون العرب ببعثة نبي آخر الزمان وأنهم سوف يتبعونه، فكان الجو في المدينة مهيأً، وأري النبي صلى الله عليه وسلم دار هجرته كما قال: (أريت دار هجرتي، أرضاً سبخة ذات نخيل، وأُراها هجر أو يثرب).
هجر هي: الأحساء، ويثرب هي: المدينة، والذي يعرف البلدين يجد الشبه بينهما -في التربة والمناخ والأشجار- قوياً جداً، ثم أراد الله الكرامة والشرف والخير للمدينة.