ومن المقدمات أيضاً: الإسراء والمعراج فكان له دور من التأييد، والطمأنينة، ومن زيادة الإيمان واليقين وعلى ما هو عليه صلى الله عليه وسلم.
كان الإسراء والمعراج قبل الهجرة بسنة وأشهر، وكيف يكون الإسراء والمعراج مقدمة للهجرة؟ كان الرسول صلى الله عليه وسلم في بيت أم هانئ في مكة، يريد الله سبحانه وتعالى في تلك الأزمة بعد عودته من الطائف -على المشهور عند علماء السيرة- أن يكرمه، رجع الرسول من الطائف إلى مكة وهو مكسور الخاطر، ونتلطف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبارة؛ لأن كل ما أصابه كان في سبيل الله.
إذاً: رجع من الطائف بغير ما كان يتوقع، وكان دخوله مكة بصورة لا نرضاها لأنفسنا، ولكن رضيها صلى الله عليه وسلم لنفسه من أجل مصلحة المسلمين، فكان الموقف موقف شدة، وتضييق وإساءة، فكان الإسراء والمعراج، فيه غرضان: الغرض الأول: مواساة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب ما ناله من أهل الطائف.
الغرض الثاني: إطلاعه على الملأ الأعلى، وعلى مستقبل الدعوة.
كأنه قال له: الطائف أساءت إليك وأدمت قدميك، فلا تحزن وهلم إلى بيت المقدس، فهو خير من الطائف ألف مرة، ومنعوك من الدخول إلى مكة إلا وأنت في جوار رجل مشرك، فلا تحزن، هلم فإن أنبياء الله ورسله، سيستقبلونك.
ثقيف وقريش لم يستقبلوه، والله جمع له الأنبياء ليستقبلوه في بيت المقدس.
ومر على موسى عليه السلام وهو في قبره يصلي عند الكثيب الأحمر كما في الحديث، ويجده أيضاً مع الأنبياء عندما استقبلوه، الآن عندما يأتي ضيف للدولة يكون في استقباله سمو كذا ومعالي كذا وفضيلة كذا، وكبار الشخصيات، لأنه ضيف الحكومة، فالرسول كان في ضيافة المولى، فكان الأنبياء في استقباله عند قدومه بيت المقدس، فهذه تعوض عليك أحسن مما فات.
وكأن الله قال لرسوله: سلطوا عليك السفهاء، وحن عليك عتبة وشيبة بقطف عنب، فهذه ثلاثة أوان: إناء من لبن، وإناء من ماء، وإناء من خمر، اختر؟ فيلهمه الله أن يختار اللبن، فيقول له جبريل: (هديت إلى الفطرة، ولو أخذت الماء لغرقت وغرقت أمتك، ولو أخذت الخمر لغويت وغوت أمتك، ولكن هديت إلى الفطرة) فصار هذا أحسن من كرامة ثقيف وضيافتهم.
يأتي أمر الصلاة، وما هو وقت صلاة الفريضة، فإنها لم تفرض، ولكن النافلة موجودة، نريد أن نصلي فمن يؤمنا؟ آدم أبو البشر موجود، نوح موجود وهو أبو البشر الثاني، إبراهيم أبو الرسل موجود، موسى الكليم موجود، عيسى كلمة الله موجود، فمن الذي يتقدم هؤلاء؟ نحن نعرف في شرعنا -وإن كان شرعنا لا يدل على شرع من قبلنا: - (لا يؤمن الرجل الرجل في بيته إلا بإذنه)، فإذا كنت ضيفاً عند أحد ولو كنت المفتي، فليس لك حق في أن تتقدم عليه وتصلي به -لأنه صاحب البيت- حتى يأذن لك.
نعم هناك حديث: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، لكن الحق في البيت لصاحب البيت، فإذا قدم صاحب البيت غيره، فهذا يدل على أن صاحب البيت تنازل عن حقه، وأكرم من قدمه.
فجميع الأنبياء كانوا في موطنهم؛ لأن الشام بلد الأنبياء، ما بعث الله نبياً إلا من أرض الشام وحول بيت المقدس، حتى انتقلت النبوة إلى الحجاز، وبعث إسماعيل، ثم بعث الرسول صلى الله عليه وسلم من ذريته، فيكون من التكريم العظيم استقبال الأنبياء لسيد المرسلين، وتقديمهم له عليهم ليصلي بهم، فهل كان في هذا تعويض عن الذي فات أم لا؟ هل فيه مؤانسة عن تلك الإساءة أم لا؟ نعم بلا شك.
ثم يكون من بيت المقدس العروج إلى السماء، وهنا وقفة: إذا كان في نهاية الرحلة عروج إلى الملأ الأعلى، ويقولون: إن مكة والكعبة أعلى نقطة على وجه الأرض إلى جهة السماء، أي أقرب، فلماذا لم يكن العروج من مكة إلى السماء مباشرةً؟ قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لو عرج به من مكة إلى السماء ثم نزل، لم يكن عنده ما يقوله لأهل مكة؟ وهم غير مصدقين، لكن لما يؤخذ من بيت أم هانئ في ليلة يذهب فيها إلى بيت المقدس، ويصلي بالأنبياء، ثم يعرج به إلى السماء ويرى ملكوت الله الأعلى، ويريه الله من آياته الكبرى، ثم ينزل ويرجع بالبراق ويأتي إلى أهل مكة، ويقول لهم: ذهبت السماوات العلى عن طريق بيت المقدس، فسألوه: كيف بيت المقدس؟ فيجد في يده ما يقدمه إليهم من بينات على تلك الرحلة، وإذا أثبت لهم الذهاب إلى بيت المقدس والعودة في تلك الليلة فممكن أن يثبت ما بعده! إذاً: كان الذهاب من مكة إلى بيت المقدس لأن الله فتح له بيت المقدس، ويريد المولى سبحانه أن يقيم البرهان لـ هرقل على ذلك الحدث، فـ هرقل كان ينظر في النجوم، ولما جاءه خطاب رسول الله بعد الهجرة: (أسلم تسلم)، سأل أبا سفيان عن رسول الله عدة أسئلة.
فـ هرقل علم أن هذا نبي حقاً، فأراد أبو سفيان أن يرمي إلى بركة العسل حجراً، فيعكرها، فقال: ألا أخبرك بخبر تعلم كذبه؟! قال: ما هو؟ قال: أُخبرنا بأنه جاء إلى مسجدكم هذا وصلى فيه ورجع في ليلة واحدة، ونحن نضرب له أكباد الإبل شهراً! فقال سادن المسجد الأقصى: والله لقد علمت بتلك الليلة، وقص خبره.