أخذ صلى الله عليه وسلم ينزل من قباء إلى المدينة، وكانت القرى ومساكن القبائل تمتد من الجنوب إلى الشمال، فأخذ يسير على راحلته، ووقعت أحداث في قباء من مجيء العزاب العوائل إلى آخره خرج رسول صلى الله عليه وسلم على راحلته.
وكان كما يقول ابن كثير وغيره: واستشرف على البيوت أهل المدينة حتى العذارى والنسوة والصبيان والكبار والصغار، يريدون أن يروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما مر بقبيلة من قباء إلى المدينة إلا وخرجوا إليه وأمسكوا بزمام الراحلة، وقالوا: هلم إلينا يا رسول الله، هلم إلى العَدد والعُدد والمنعة.
لمْ يقولوا: على الطعام الطيب والرطب، والمجلس اللين؛ لأنه خرج من مكة على بيعة أهل المدينة من قبل السبعين الذين بايعوه على أن يمنعوه، فدعوه إلى المنعة والعدد ليفوا بما بايعوا عليه: هلم إلى العَدد والعُدد والمنعة، أي: على ما بايعناك عليه، فقال (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) أي: أنا ليس لي اختيار في موطن نزولي؛ فإن الناقة مأمورة بأن تنزل في المكان الذي يريده الله.
سبحان الله! إن جئنا من جهة العادة والطبيعة: وأرحم خلق الله، وأفهم خلق الله، وإذا جئنا إلى الناحية الأخرى: رسول يوحى إليه من الله: خلوا سبيلها، اتركوها تمشي، كيف هذا؟ نبي يوحى إليه، آتٍ لكي يبلغ رسالة يقول هذا، ولكن وراء ذلك من الحكم ما لا يعلمه إلا الله.
ومر على أخواله من بني النجار، فقالوا: هلم إلى أخوالك يا رسول الله! وهو يقول: (دعوها فإنها مأمورة) فمرت حتى جاءت إلى هذا الحي ونزلت الناقة وبركت، ثم لم ينزل عنها، بل الناقة بعد أن بركت ودارت واستدارت، وتلفتت ثم رجعت إلى مكانها الأول وبركت فيه، يقول ابن كثير: كالمتحقق من معالم يديه، يعني: مثل مهندس حكيم نبيه عنده خارطة لمنْجَم، أو لأمانة، أو لموقع، وهو ماضٍ على الخارطة من أجل أن يصل إلى الهدف الذي يريده، وهذه المأمورة سارت في طريقها إلى المكان الذي أراده الله لها ثم نزلت، ولما رجعت ونزلت المرة الثانية مدت عنقها، فقال صلى الله عليه وسلم ({هو المنزل إن شاء الله).