بدأت النزعات العقلية في تاريخ الإسلام بالتدرج، كانت في أولها مجرد نزعات يسيرة فردية، ثم تحولت إلى فرق، وهي الفرق الهالكة، كالتي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة) وذكر أن كلها هالكة إلا واحدة، والفرق التي هلكت كلها بالاتجاه العقلاني استعملت أهواءها وعقولها، وتركت منهج السلف في الاستدلال، وتركت الاهتداء بكلام الله تعالى وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم فهلكت، لكن قبل أن تكون الفرق كانت هناك نزعات فردية، أولها ما حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس له أثر في الدين، إنما فيه عبرة من حال المنافقين وأهل الكتاب والمشركين، فالمنافقون والمشركون وأهل الكتاب مع كون القرآن يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يحتجون على الشرع بعقولهم، وعلى القدر بعقولهم، لم يهتدوا؛ لأن الله سبحانه وتعالى كتب عليهم الضلالة، ثم بعد ذلك ظهرت نوازع فردية من بعض الناس، كالرجل الذي اعترض على قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين، وهو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون أصل الخوارج، قال صلى الله عليه وسلم: (سيخرج من ضئضئ هذا الرجل أناس يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) فالخوارج خرجوا بأهوائهم على المسلمين، وكبعض الأشخاص الذين ظهروا في عهد عمر بن الخطاب مثل: صبيغ بن عسل التميمي الذي بدأ يضرب بعقله آيات الله بعضها ببعض، آيات القدر، فكان يفسّر الآيات ويقول: هذا يكون وهذا لا يكون، هذا كيف يصير؟ وهذا كيف لا يصير؟ فذكر أمره عند عمر بن الخطاب فجاء به، فأدرك أن فيه شكاً وريباً، وأنه بدأ يستعمل عقله في أمر القدر وأمر الغيب والشرع الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فأدرك أنه مريض القلب والعقل، فضربه عمر بالدرة حتى أدمى رأسه، وقال: كفى يا عمر أتريد أن تقتلني؟ أجد ما في رأسي قد ذهب، وعزله عمر عن الناس سنة كاملة لا يتحدث إليهم ولا يتحدثون إليه؛ لأنه عقلاني يعترض على الدين بعقله، وبذلك تأدب الناس في عهد عمر.
ثم بدأت أيضاً نزعات أخرى في عهد صغار الصحابة: نزعات الأهواء، وكانوا يسمون أصحاب القدر، الذين يعترضون على القدر جبراً أو اختياراً ويتكلمون فيه، وكان الصحابة يسمونهم: أهل الرأي وأهل القياس، ولا يقصدون بذلك قياس الشرع القياس الفقهي، قياس حكم على حكم أو قضية على قضية، إنما كانوا يقيسون الأمور الغيبية بالأمور المشاهدة، وهذا خطأ، فسماهم الصحابة: أهل القياس.
وقال علي رضي الله عنه حينما رأى بعض الذين يتكلمون في الدين برأيهم كأهل الأهواء والخوارج والرافضة وغيرهم، قال: لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من مسح أعلاه.
يعني: أن الدين ليس بالرأي، الدين شرعه الله سبحانه وتعالى، وعلينا أن نمتثل أمر الله تعالى ولا نقول: هذا يصلح وهذا لا يصلح.