العقلانيون في تاريخ الإسلام أصناف: أولها وأخطرها -وهم العقلانيون الخلّص-: الفلاسفة، ولا أقصد بذلك الفلاسفة الذين سبقوا المسلمين، لا، أولئك أمرهم واضح؛ لأنهم لم يكونوا على الإسلام أصلاً، إنما أخطر العقلانيين وأنكأهم على الأمة الإسلامية هم الفلاسفة المسمّون بالفلاسفة الإسلاميين، الذين يعلنون الإسلام ويظهرونه، وهم في حقيقة أمرهم إنما يستمدون دينهم من عقولهم ومن فلسفة السابقين لهم، كـ ابن سينا والفارابي وابن رشد وابن عربي ومن نحا نحوهم.
إذاً: هؤلاء الفلاسفة الخلّص هم أخطر طبقة من العقلانيين؛ لأنهم يخلعون الدين كله، حتى ما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته، وأمور الغيب كاليوم الآخر وما فيه، وكالأخبار التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بها من أخبار الغيب كل ذلك يخضعونه للعقل إخضاعاً خالصاً، ولا يعوّلون فيه على النصوص.
الطبقة الثانية من العقلانيين: المتكلمون، وهم أيضاً لا يقلون خطورة على الفلاسفة لأمور: الأمر الأول: أن أمر الفلاسفة معروف، وأيضاً اشتهروا بخلاف ما عليه أهل السنة في الاعتقاد والعمل.
الأمر الثاني: أن المتكلمين تكلفوا في خلط نصوص الشرع بأصول الفلاسفة، والأصول العقلية التي كان عليها العقلانيون، أي: أنهم حاولوا التلفيق بين ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وبين زبالة عقول البشر، فبهذا المنهج التلفيقي ظهرت أعظم وأنكى الفرق على المسلمين وأخطر الفرق، ابتداءً من الجهمية وهم أول من تجرأ على أصول الدين بالعقل، خاصة على الأصول الكبرى القطعية المجمع عليها، ثم المعتزلة، ثم ما تفرع عنهم من فرق، وتلاهم بعد ذلك المتكلمون من الأشاعرة والماتريدية، وإن كانوا أخف وأقل غلواً، لكنهم أقحموا العقول في بعض أصول الدين مما جعلهم ينحرفون عن منهج السلف في هذه الأصول.
أيضاً من العقلانيين: أغلب المتصوفة، وسيأتي في حلقة قادمة الحديث عن منهج المتصوفة، وستسمعون شيئاً من ذلك، وأن أغلب المتصوفة يعتمدون على الهوى والذوق، والذوق إنما هو منهج عقلي ينافي منهج الكتاب والسنة، وينافي التسليم.
هذا في القديم، أما في الحديث فقد ظهرت اتجاهات كثيرة عقلانية خالصة، أو اتجاهات ملفقة تحاول أن تلفق بين دلالات النصوص الشرعية وبين المناهج الفلسفية والعقلية من ناحية، ومن ناحية أخرى بين الدلالات الشرعية وبين النظريات الغربية الحديثة، وهي التي افتتن بها المسلمون أكثر من غيرها.
فهؤلاء أصحاب اتجاهات لا يمكن حصرهم، إنما يجمعهم اتجاه واحد أو وصف واحد، وهو وصفهم بالعلمانيين، فأغلب العلمانيين على هذا الاتجاه.
فالعلمانيون ورثوا أغلب أفكار الفرق القديمة من حيث تسلطهم على الإسلام من ناحية، وعلى نصوصه وشرعه وأحكامه، ومن ناحية أخرى أنهم جعلوا عقولهم وأهواءهم هي الموازين التي يزنون بها الحق من الباطل، ويزنون بها أنماط السلوك والتصرفات في المسلمين.
وأخطر العلمانيين ما يسمون الآن بالحداثيين، والحداثيون هم توجهات واتجاهات مختلفة، لكنهم الورثة الحقيقيون للفرق؛ لذلك نجدهم أكثر الناس إشادة بشذاذ الفكر القدامى، وهم الذين أشادوا برءوس البدع القدامى ولا يزالون يشيدون بهم، كما أنهم يشيدون باتجاهات الفرق كالمعتزلة والجهمية ومن نحا نحوهم؛ لأنهم يرونهم أصحاب الفكر الحر، والفكر المتحرر التجديدي في تاريخ الإسلام.
ستأتي نماذج من خلال العرض التفصيلي لهذه الاتجاهات.