من المسلمات: أن فهم العقيدة وسائر أمور الدين لا يمكن أن يكون إلا على مقتضى النصوص الشرعية، وعلى منهج الاستدلال الصحيح، لكن ليس لكل أحد أن يتناول نصوص الشرع ثم يقول أنا أفهم معناها ومقتضاها، لا؛ لأن الدين يقوم على الاتباع والاهتداء والاقتداء، ويقوم على الأصول والضوابط والشروط التي جاءت في الاجتهاد، ففهم الدين إنما يقوم على منهج كسائر العلوم الأخرى، بل هو أولى؛ لأن الخوض في الدين بغير علم وعلى غير أساس من المنهج السليم هو القول على الله بغير علم، فلا بد أن تفهم العقيدة وسائر أمور الدين على منهج شرعي وفق استدلال السلف، وأعني بذلك أن فهم الدين على نوعين: الأول: فطري وبديهي، الثاني: يحتاج إلى استنتاج من الكتاب والسنة على ضوء قواعد الاجتهاد، وهذا ليس لكل أحد أن يجتهد في الدين بمجرد رأيه وبمجرد مزاجه، فلا بد أن تتوافر فيه شروط الاجتهاد؛ لأن الله عز وجل قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
وقال سبحانه في الذين تنازعوا في الدين: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، وهم العلماء، ولذلك نوه الله عز وجل عن الراسخين، وأنهم هم الذين يعلمون ما أشكل من كثير مما ورد في نصوص الكتاب والسنة، ولأن الله عز وجل أخبرنا بطائفة من أهل الزيغ الضلال يتبعون ما تشابه من نصوص الشرع، كما قال سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7].
بالوقف على لفظ الجلالة، وفي قراءة أخرى صحيحة بالوصل: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)).
إذاً: هناك جزء كبير من أمور الدين ليس لكل أحد أن يتناوله ما لم تتوافر فيه الشروط والضوابط الشرعية باجتهاد.
من هنا أحب أن أنبه على ظاهرة مزعجة وخطيرة على الأمة، وهي أن كثيراً من الناس تجرءوا على القول على الله بغير علم، وعلى القول في الدين بلا دليل، أو يأخذون الدليل على غير معرفة بمنهج الاستدلال، فتناولوا قضايا العقيدة والأحكام بمجرد أمزجتهم وأهوائهم، فهم بمجرد أن يعرفوا النصوص ويتصفحوها خاضوا فيها بغير علم، وهذا لا شك أنه خطأ عظيم وباب فتنة، ومن هنا ندرك أيضاً مدى لعب الشيطان بهذا الصنف من الناس، وهم أكثرية اليوم، وندرك هذه الظاهرة من خلال ما نلاحظه في مجالس الناس اليوم، لا توضع قضية من قضايا الدين إلا وتجد أجهل الحاضرين هو أجرؤهم على القول، وهذا أمر خطير جداً؛ لأنه قول على الله بغير علم، وهو من أعظم الذنوب ومن كبائرها.
فمن هنا يحسن أن نتنبه وننبه على هذه القضية؛ لأن الجرأة على القول في دين الله بغير علم من أخطر الأمور، واستهان الناس بالعلماء، ولم يرجعوا إلى أهل الاختصاص من أهل العلم.
يقول بعضهم مقولة في الحقيقة تدل على الجهل المركب، يقول: إننا إذا حجرنا الدين على العلماء هذه كهنوتية كما هي عند النصارى وغيرهم، نقول: هذا لا شك أنه جهل مركب، ولا شك أن الدين هو دين الله عز وجل، وأمر الله جميع البشر بأن يلتزموا به، لكن الدين أعلى وأجل وأهل أن يصان وأن يحترم، ولابد له من مناهج للاستدلال وشروط وضوابط لا تتوافر لكل واحد، وهذا إذا كان في كل علم من العلوم فكيف بما يتعلق بعلوم الشرع؟! أقول: إننا ندرك جميعاً الآن أنه لا يجوز لأحد أن يتكلم في الطب إلا إذا كان متخصصاً، ولا في الهندسة إلا إذا كان متخصص، ولا في غيرها من العلوم الأخرى إلا إذا كان متخصصاً، مع أنهم يعملون للدنيا، ولو تكلم أحد في هذه العلوم من غير أهل التخصص لعابه الناس، بل تجد أكثر الناس إذا أراد أن يتكلم بمجرد رأيه في هذه العلوم، تجده يحترز من أن يتكلم عند المتخصصين؛ يخشى أن يعاب، ومع ذلك الجرأة على الدين وعلى العلوم الشرعية كثرت، مع أنها أولى أن تحترم، وأن يرجع فيها إلى أهل الاختصاص، فليس في الدين كهنوتية، لكن الدين علم من العلوم التي ينبغي أن تؤخذ على أصولها ومناهجها وقواعدها وشروطها، وإلا لماذا أرشدنا الله عز وجل إلى سؤال أهل الذكر، وإلى الرجوع إلى الراسخين، وإلى احترام العلماء، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن العلماء هم ورثة الأنبياء، وأخبر بأن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، إنما ورثوا العلم، وهو الدين.
فعلى هذا لا يجوز لأحد أن يتناول أمور الدين دون أن يستوفي الشروط، وإلا فقد قال على الله بغير علم، وافترى على الله الكذب.
إذاً: هذه ينبغي أن تكون من المسلمات.