كذلك من مظاهر التدين: الورع، والورع ثمرة طبيعية لتحقيق العبودية لله عز وجل، ولتحقيق صلاح القلب والتعبد لله والخشوع، والمسلم إذا عبد الله على ما شرع الله وإذا عظم الله عز وجل في قلبه وجوارحه وعواطفه.
وإذا ظهر أثر ذلك في خشوعه فلا بد أن ينتج عن ذلك الورع، فالورع معنى عظيم يجهله كثير من الناس.
وأول الورع: الورع عما حرم الله، وليس أمام الخلق فقط، بل أولاً أمام الخالق عز وجل، فيجب أن يتورع المسلم من أن يقع فيما ينهى الله عنه، وأن يجد في قلبه واعظاً ورادعاً يردعه عما يغضب الله.
ثم لابد أن ينتج عن هذا الورع ورع آخر: وهو الورع في حقوق الخلق، الورع في سائر ما يتناوله المسلم في حياته، فيتورع في مأكله، ويتورع في مشربه، ويتورع في دخله، ويتورع في حقوق الخلق، ويتورع عن الدماء والأعراض والأموال وسائر الحقوق، وكثير من الناس يفقد حقيقة الورع وإن تدين ظاهراً؛ لأن الفارق بين التدين الحقيقي والتدين العاطفي، أو من أكبر الفوارق وأظهرها بين التدين العاطفي الذي لا يوزن بميزان الشرع وبين التدين الحقيقي: الورع.
ولهذا أمثلة من مسالك الذين سلكوا التدين بغير ورع فيها العبرة، ولنأخذ أبرز مثال: تدين الخوارج الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يخرجون في أكثر من زمان، أخبر عن الخوارج الأولين، وأخبر عن خوارج يخرجون في آخر الزمان، جاء في حديث البخاري: (سيخرج في آخر الزمان أناس حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية)، يعني: ظاهرهم قول الدين، والغيرة على الدين.
ولكنهم لا يتورعون عما حرم الله، بل لا يتورعون عن أعظم المحرمات في حقوق الخلق وهي الدماء، فأعظم المحرمات في حقوق الخلق هي الدماء، ومع ذلك هم متدينون، بل وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنا نحقر صلاتنا عند صلاتهم وصيامنا عند صيامهم، وقد وصفهم بعض الصحابة الذين جاءوهم في معسكراتهم بأن لهم دوياً كدوي النحل، مصفرة وجوههم، ناحلة أجسامهم من القيام بالليل، أُسوْد في القتال، لكن تدينهم غير حقيقي، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية؛ لأن تدينهم عواطف جياشة، تفجر الطاقات، والواحد منهم لو لم يضبط هذه العاطفة لربما فجر نفسه، كما يحصل من بعض المتأخرين.
فعندهم عواطف جياشة، لكنها على غير هدى، وليس هذا هو التدين الذي أمر الله به، ومن هنا أحب أن أنبه على ظاهرة ظهرت في الآونة الأخيرة عند بعض الشباب، وإن كانوا قليلاً والحمد لله، لكن معظم النار من مستصغر الشرر، وهي تتعلق بحقيقة التدين، وهي أنهم تدينوا تديناً عاطفياً غير منضبط بالضوابط الشرعية، ولا بمنهج الرشد وأهل الرشد العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وغير منضبط بمناهج العقلاء، فأدى بهم هذا التدين غير المنضبط إلى سلوك مسالك الغلو، فوقعوا في مصيدة المخالفين، ثم اتهام المخالفين لهم من العلماء وأهل الخير والصلاح والاستقامة -فضلاً عن غيرهم- بتهم تصل إلى حد التكفير، ثم أدى ذلك نتيجة التدين العاطفي غير الراشد إلى سلوك مسالك استحلت فيها الدماء، والفساد في الأرض بدعوى الغيرة على الدين وبدعوى الجهاد، وهذا يتنافى مع الورع؛ فالدين جاء بحفظ الضرورات الخمس: حفظ الدين، وحقيقة التدين: أن يحرص المسلم على حفظ الدين في نفسه وفي الأمة وفي البشرية جميعاً.
ثم حفظ النفس، فاحفظ نفسك ونفس غيرك.
وحفظ العقل.
وحفظ العرض.
وحفظ المال.
هذه تسمى ضرورات عند جميع العقلاء، وحفظها حقيقة التدين، فحقيقة التدين تتجلى في هذا الأمر، ولا مانع أن نطيل في هذه الظاهرة؛ لأنها ظاهرة ظهرت آثارها فينا وسببت شق الصفوف والتغرير ببعض شبابنا المتدين، وظهرت لها آثار في أمننا وفي جميع أمورنا، فلابد من الوقوف عندها قليلاً.
وحقيقة التدين تتجلى أولاً بالاستقامة على العقيدة، ثم بسلوك سبيل المؤمنين الذين توعد الله من خالفهم، كما قال عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115]، وسبيل المؤمنين هو سبيل السلف الصالح، ومن سار على نهجهم إلى قيام الساعة، وسبيل المؤمنين إنما يمثله العلماء أهل الحل والعقد إلى يوم القيامة، وإذا لم نقل بهذه الحقيقة ضاعت الأمور، وإلا لماذا أرشدنا الله عز وجل إلى أهل الذكر، ولماذا أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم بالأخذ عن العلماء وقال: (العلماء هم ورثة الأنبياء).
إذاً: فحقيقة التدين تتمثل بسلوك سبيل المؤمنين الذي يمثله العلماء، والعلماء قد يشك فيهم بعض من عنده شبهات، لكن مع ذلك يبقى من الثوابت الشرعية والعقلية أن العلماء هم رأس الأمة دائماً، وهم الذين حفظ الله بهم الدين، وهم رأس الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم)، فإذا لم يكونوا ظاهرين بالعلم