لابد أن يتحقق معنى التدين في صلاح القلب بالتذلل لله سبحانه، التذلل القدري والشرعي، بأن يخضع لقدر الله عز وجل، ويؤمن بقدر الله، ويصبر على قضاء الله.
وكذلك التذلل بالاستعداد والتسليم للعمل بما أمر الله به، والانتهاء عما نهى الله عنه.
وكذلك لابد أن يشعر المسلم إذا تحقق التدين في قلبه بالإذعان لشرع الله: أنه يستلزم ذلك فعل ما أمر الله به، كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران:31]، ومما يستلزم صلاح القلب: اتباع ما أمر الله به واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، والاتباع يبدأ بالمحبة، بأن يحب المسلم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين، ولتثمر هذه المحبة الاستعداد لقبول ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، فيستعد المسلم لتوقير النبي صلى الله عليه وسلم في كل أحواله، ثم اتباع سنته والاهتداء بهديه، وحب ما يحبه الرسول صلى الله عليه وسلم، وحب من يحبه، وبغض ما يبغضه الرسول صلى الله عليه وسلم، وبغض من يبغضه.
كذلك تتجلى حقيقة التدين من حيث صلاح القلب: في الرقابة لله عز وجل، والذي ينتج عنها تقوى الله، فمن راقب الله اتقاه، وهذه من معاني الإحسان التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، حينما سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، بهذا الاستشعار تتحقق الرقابة لله عز وجل في قلب المؤمن وعقله ومشاعره وروحه وعواطفه، فإذا تحققت الرقابة لله عز وجل فإن المسلم لابد أن يتقي الله، وهذه نتيجة طبيعية، بل نتيجة حتمية، فكل من راقب الله واتقاه فلابد أن يقوم بما أوجب الله عليه، وأن ينتهي عما نهى الله عنه.
والمسلم إذا استشعر أن الله يراقبه على معنى حقيقي وصحيح وسليم، فإنه لا يمكن أن يقع فيما يخل بحقيقة التدين.
مثال ذلك ولله المثل الأعلى: الإنسان إذا شعر برقابة غيره له من البشر فتصوروا ما يفعله من التصنع والتكلف والمجاملة والمداراة إلى آخره؛ لأنه يشعر برقابة بشر برقابة إنسان لا يملك نفعه ولا ضره إلا بإذن الله، ولله المثل الأعلى، فكيف بمن يستشعر رقابة الله؟ ولذلك فإن حقيقة صلاح القلب إنما تتمثل بهذا المعنى، بالرقابة لله عز وجل؛ لأنه إذا امتلأ قلب المسلم بمحبة الله ورجائه وخشيته والإنابة إليه، إذا استشعر معاني صفات الله وأسمائه وأفعاله، إذا استشعر ما يجب لله عز وجل من التعظيم، فإنه لابد أن يجد أثر ذلك في قلبه وسلوكه، تتحقق التقوى التي أبرز معانيها: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية؛ باتباع ما أمر الله به، واجتناب ما نهى الله عنه.
ثم لابد أن ينتج عن هذا الأمر أمر آخر تتجلى فيه أيضاً حقيقة من حقائق التدين: وهو التعبد لله عز وجل بما شرع، فالإنسان إذا خضع قلبه لله عز وجل، وإذا استكانت جوارحه وعواطفه وعقله وروحه لله عز وجل، فلا بد أن يتمثل ذلك بتحقيق العبادة، فإذا كانت العبادة على منهج سليم، على ما شرع الله وسن رسوله صلى الله عليه وسلم تحقق التدين في جانب العبادة لله، وذلك بامتثال ما شرعه الله بامتثال الفرائض والواجبات، والتقرب إلى الله عز وجل بما يحبه من الأعمال القلبية والعملية، والابتعاد عما يبغضه الله من الأعمال والأقوال القلبية والعملية.
كما تتجلى حقيقة التدين بعد إقامة الفرائض وإقامة الواجبات في عمل السنن والنوافل، فالأعمال الصالحة يجر بعضها إلى بعض، والحسنات تدعو إلى الحسنات، فإذا وفق الإنسان وقبلت منه الحسنة فلابد -بإذن الله- أن يهتدي بها إلى الحسنة الأخرى، فمن أقام الفرائض على وجهها، وأدى الواجبات على وجهها فلابد أن يثمر ذلك في ظهور مظهر آخر من التدين، لا يتذوقه إلا من كان على هذا الطريق، وهو التقرب إلى الله بالنوافل، كما جاء في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت بصره الذي يبصر به، وسمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها؛ ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه).
وهذه المعاني العظيمة تتحقق إذا تدين المسلم لله عز وجل بالنوافل، ولكن لا يعقل أن يتدين بالنوافل ويقبل منه ذلك إلا إذا قام بالفرائض والواجبات، وهذا من جوامع الكلم للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه اختصر الكلام، فبدل أن يقول: (تقرب بالواجبات والفرائض) قال: (بالنوافل)؛ لأنه لا يعقل أن الإنسان يتقرب بالنوافل على وجه شرعي صحيح مقبول عند الله إلا وقد وفى بالأركان والواجبات والفرائض، ولو عمل بالنوافل دون الفرائض ما نفعه ذلك.
إذاً: تتجلى حقيقة التدين كذلك بالتعبد لله عز وجل، والتعبد لابد أن يكون على ما شرعه الله عز وجل، فكثير من عباد الأمم وأصحاب الديانات الباطلة قديماً وحديثاً يتعبون وينصبون في التعبد، لكنهم على غير شرع صحيح، فهؤلاء من الأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا