المرتبة الثانية التي يستقيم بها إيمان العبد بالقدر: مرتبة الكتابة، فإن الله علم فكتب كل شيء قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال وما أكتب؟ قال: ما هو كائن) يعني إلى يوم القيامة.
قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، والذي أوحي إليه الزبور هو داود عليه السلام، وقد كتب الله فيه أن الأرض يورثها الله لمن شاء من عباده الصالحين، وتلك الكتابة في الزبور كانت بعدما كتبه الله في اللوح المحفوظ.
وقال أيضًا: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:77 - 78]، والكتاب المكنون يقصد به: اللوح المحفوظ.
أيضًا قال في سورة البروج في آخر آية: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21 - 22]، فقد كتب الله كل شيء، وهذه الكتابة هي الكتابة الأزلية العامة، وهي كتابة في الأثر.
إن مرتبة الكتابة إذا آمن بها العبد لا بد أن يعلم أن لها أربعة مراحل: أولاً: الكتابة أزلية: وهذه هي المرادة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله القلم قال له اكتب).
ثانياً: الكتابة العمرية.
ثالثاً: الكتابة العامية: وهي مأخوذة من العام، أي: سنوية.
رابعاً: الكتابة اليومية.
إذاً: الإيمان بمرتبة الكتابة: هو أن يعلم المؤمن بأن الله جل وعلا قد كتب كل شيء وقدر كل شيء قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة كما في حديث القلم، وهذه هي الكتابة الأزلية، وقد تكلمنا عنها وقلنا: إنها هي المذكورة في حديث القلم.
والكتابة العمرية: دليلها حديث الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: (يجمع الجنين في بطن أمه أربعين يوماً) ثم تلا الحديث إلى آخر الأربعة الأشهر، أو المائة وعشرين يوماً إلى أن قال: (فيأتي الملك فيؤمر بأربع كلمات: ذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، أجل ورزق) إذاً: يؤمر الملك بكتابة أربع كلمات، بكتب الرزق والأجل وكَتْبِ الشقاء أو السعادة وكَتْبِ النوع، والإيمان بهذه الكتابة يحل إشكالات عظيمة جداً منها: الإشكال الذي طرحه لنا عمر بن الخطاب عندما طاف حول الكعبة وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت قد كتبتني عندك شقياً فامحها واكتبني سعيداً، مع أن الله جل وعلا قد بين أن ما كتب في اللوح المحفوظ لا يمكن أن يغير، فما فقه عمر الذي جعله يقول ذلك؟ قال الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، فالإيمان بهذه الكتابة يحل لك هذا الإشكال.
وهذه الكتابة إما أن تكون في اللوح المحفوظ، وإما أن تكون في صحف الملائكة، فهي تحتمل ذلك، وقد فقه عمر وهو يقول: اللهم امحها واكتبني عندك سعيداً فقرأ قول الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39] أي: في صحف الملائكة {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، وهو الأصل الذي لا يغير، لكن الذي يغير هو ما في صحف الملائكة.
وقد قال ابن مسعود: الشقي من شقي في بطن أمه، فنقول دائماً: إن هذا الشقاء الذي كتب في صحائف الملائكة هو الذي يمكن أن يغير، حتى لا يتقاعس أحد ويقول: قد وقعت في المعصية، والله قد كتب ذلك وأنا في بطن أمي، فنقول له: قل ما قاله عمر: اللهم إن كنت قد كتبتني أي: في صحف الملائكة شقياً فامحها، واكتبني عندك يعني: في اللوح المحفوظ سعيداً.
الكتابة الثالثة: كتابة عامية: وهذه أيضًا يمكن أن تحل لنا إشكالاً آخر، ألا وهو: إذا قدر الله المصيبة فهل من الممكن أن تُرفع بالدعاء أم ليس ذلك ممكناً فيرضى بها؛ لأن هذا قدر الله عليه؟
صلى الله عليه وسلم إن المصيبة ترفع بالدعاء، والدليل على ذلك إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الدعاء والقدر يتعالجان في السماء حتى يرد الدعاء القدر، مع العلم أن القدر قد كتبه الله في لوحه المحفوظ، ومن ضمن ما كتب في اللوح المحفوظ أن البلاء إذا نزل فإنه يرتفع بالدعاء، وأيضًا إن الذي يغير إنما هو ما في صحف الملائكة، ولا إشكال في ذلك بفضل الله سبحانه وتعالى.
وهذه الكتابة أخذت من تفسير ابن عباس لقول الله تعالى عن ليلة القدر: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4]، قال ابن عباس: يفرق أي: يكتب السعيد والشقي في هذا العام، ويكتب الرزق في هذا العام، ويكتب الحاج في هذا العام، ويكتب الأجل في هذا العام، فتكون هذه كتابة عامية.
الكتابة الرابعة: كتابة يومية: وهذه عند تعاقب الملائكة كما في الصحيح: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار، فيلتقون في صلاة الفجر وصلاة العصر)، فتكتب الملائكة من صلى الفجر في جماعة، ومن صلى العصر في جماعة، ومن عمل حسنة في ذلك اليوم، أو عمل سيئة في ذلك اليوم.