الرد على الشبهة الخامسة: وهي قدحهم في رواية عكرمة

الشبهة التي بعدها هي قولهم: إن عكرمة لم يرو عنه مسلم والرد عليهم: أن عدم رواية مسلم لـ عكرمة ليس قدحاً في عكرمة؛ لأنه قد روى له شيخه وسيده البخاري باتفاق العلماء وبإجماع أهل العلم، واعترف مسلم نفسه أن البخاري سيده، وذلك عندما دخل على البخاري يسأله عن حديث فقال البخاري: هذا الحديث فيه علة، فقال مسلم: أخبرني، فلم يخبره البخاري حتى كاد مسلم أن يبكي ويموت كمداً؛ لأنه لم يخبره عن العلة، ثم قال: أخبرني عن العلة فأخبره عن العلة، فقال: دعني أقبل رجلك.

وقال الدارقطني: لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء، وهذا سيظهر لك جلياً حديثياً كيف أن أهل التحقيق والتدقيق عند الالتباسات هم الذين يظهرون الصواب، فنقول: إن تركه مسلم فقد روى له البخاري وكفانا بـ البخاري حجة.

فإن قالوا: إن ابن المسيب قد قال عنه: إنه كذاب، وورد عن بعضهم أنه قال: لا تأخذوا منه حديثاً، ولا يكتب حديثه، وقدح كثير من الناس في حفظه، فالرد على ذلك أن نقول: إن القاعدة عند علماء الجرح والتعديل: أنه إذا ورد في المرء تعديل وورد فيه جرح، فإن الجرح لا يقبل إلا مفسراً، فقد ورد في عكرمة أنه من أوعية العلم، وأنه بحر في التفسير، وقال سعيد بن جبير عن عكرمة: إنه أعلم الناس بالتفسير، وبعضهم قال: وهو من أكثر العلماء رواية، ومنهم من قال: ثقة ثبت، إذاً: فقد ورد فيه التعديل، ثم ورد فيه الجرح، فبعضهم يقول: كان يرى رأي الخوارج وهذا الذي أثبته الذهبي عليه، فإذا ورد فيه جرح وتعديل فلابد من تفسير للجرح.

وعند التفسير لابد أن نقف أمام ملاحظات ثلاث، الملاحظة الأولى: الإثبات بالسند أن الجرح حدث من هذا الراوي، فتجريح سعيد بن المسيب له لا يصح؛ لأن السند إليه ضعيف لا يصح.

والملاحظة الثانية: أن من تكلم فيه فقد تكلم فيه من قبل رأيه، فقال: كان يرى رأي الخوارج، حتى إنه نسب ذلك إلى ابن عباس، وقالوا عنه: إنه وقف في الكوفة أمام المسجد، وكلما دخل رجل قال: هذا من الكفار، أي: يرى أنه كافر بالمعصية.

إذاً: عندنا حالتان: الأولى: أنه لم يثبت، الثانية: أنهم أثبتوا الجرح فيه من أجل أنه يرى رأي الخوارج.

إذاً: ففي الجرح قد أثبت العلماء أن الكلام فيه من قبل حفظه لا يصح، وأيضاً من قبل عدالته لا يصح، فالعلة الأولى واهية، وأما قولهم: أثبت الذهبي أنه كان يرى رأي الخوارج وأقر بذلك، فنقول: إن الحافظ ابن حجر قال: لم يثبت في جرحه في حفظه من شيء، ولم يثبت أيضاً شيء عن رأيه، يعني: لم تثبت فيه بدعة الخوارج، ولم يثبت الكلام فيه من جهة الحفظ، وابن حجر أتقن من الذهبي ولذلك طرح البخاري كلام المجرحين فيه وجعل عكرمة من ضمن المحدثين الذين يروى عنهم.

وقد قال العلماء: من روى عنه البخاري فقد وثقه، وقد جاوز القنطرة.

ومن الرد عليهم أيضاً: أن مسلماً لم يترك عكرمة كلياً، بل روى لـ عكرمة مقروناً برجل ثقة، ولو كان منطرحاً كذاباً لا يمكن ولا يحل لـ مسلم بمعرفته على وجه الكذاب أن يضعه في كتابه، فهنا نقول: قد تهافتت هذه الشبهة وصح لنا الحديث وسلم لنا بأن عكرمة ثبت، وأن عدم رواية مسلم له ليست فاضحة في عكرمة رضي الله عنه وأرضاه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015