إن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جلس بين أصحابه بين لهم الفرق بين العالم الذي تفرغ لطلب العلم وانشغل بالوحيين، والعابد الزاهد الذي طال قيامه، وكثر صومه، وكثرت صدقاته، فقال صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم).
وشتان بين القمر وسائر الكواكب، وهذا مما يشحذ الهمم لطلب العلم، فلو غاب أهل العلم فلا بد أن يخرج لنا أناس جهال، فيفتون الناس بغير علم، فيضلون ويضلون، وكما نرى أن الجهاد في سبيل الله والذي هو أشرف ما يكون، ضوابطه الشرعية مغيبة فتسفك دماء بريئة وتكون المفسدة فيه أعظم من المصلحة، وكثير من الجهلة يكفرون الناس البريئة لأنه غاب عنهم أمر العلم.
والذي يحج أو يصلي أو يزكي وقد غاب عن العلم فإنه يفسد أكثر مما يصلح.
إذا غاب العلماء وانتشر الجهل فإن ذلك دليل على أن القيامة قد قربت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يرفع العلم ويظهر الجهل، وإن الله جل وعلا لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، أو قال: لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسألوهم فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).
وبعد أن تذهب الدنيا يستحق النار كل من تجبر، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة) وذكر منهم قاضياً قضى بغير علم فهو في النار، وإن قضى بالحق وأصاب الحق؛ لأنه أفتى بغير علم وتجرأ على الله جل في علاه، ووقع تحت قول الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116].
ونتائج ذلك كثيرة، منها: أولاً: تضليل الناس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).
ومنها: انتشار الجهل ووضع الشيء في غير موضعه، ففي السفر مثلاً: من السنة أن يؤمر المسافرون أحدهم ليرجع إليه في بعض الأمور، ولكن بعض الذين يترأسون لا يستبصرون بنود الشرع، فيفسدون أكثر مما يصلحون، ويغلبون العاطفة على الحكمة، ويضعون الشيء في غير موضعه؛ بسبب جهلهم، وقد يصاب الناس جميعاً بما لا يحمد عقباه بعد ذلك؛ لأنهم وضع عليهم من لا أهل له في أن يسير الناس على ما يرضي الله جل في علاه.
وهكذا فكثيراً من الناس يتأمرون وليسوا أهلاً للإمارة، وقد ورد حديث في مسند أحمد وإن كان فيه ضعف -أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن من ارتقى إلى منصب أو مكانة وغيره أولى منه فقد أسخط الله.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتخذ الناس رءوساً جهالاً) يتحقق في الذين يتصدرون ولا يعرفون عن دين الله شيئاً، أو يعرفون عن دين الله أشياء لكنهم تركوا الأصول وهي: الكتاب والسنة.