فإذا تجرأ امرؤ على رجل مستأمن فقتله حكمه: أولاً: أن هذا الفعل من المهلكات ومن الكبائر، وهناك أدلة متكاثرة تبين ِأن الله جل في علاه وأن رسوله صلى الله عليه وسلم قد جعلا هذه الفعلة في الموبقات والكبائر المهلكات، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (اجتنبوا السبع الموبقات، وعد منها: قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق) والمستأمن حرم الله دمه حيث قال: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6]، ويصبح بذلك معصوم الدم والمال والعرض، فإذا قتلت نفساً حرمها الله جل في علاه فإنك تدخل في ذلك الوعيد.
ومن الأدلة أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم تصريحاً: (من قتل معاهداً بغير حق)، وهذه الرواية في البخاري، ورواية النسائي قال فيها: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة) حتى ولو كان المعاهد كافراً أو منافقاً؛ لأن القضية ليست في كفره، وإنما القضية في أمان المسلمين وعهدهم ووفائهم وعدم خيانتهم لمن عاهدوه.
وقد قيد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الرواية بقوله: (من قتل معاهداً بغير حق لم يرح رائحة الجنة) فقوله: (بغير حق) تقييد أخرج من نقض أمانه فليست له هذه الأحكام، بل أمره يرجع إلى ولي الأمر فينظر في أمره، بدلاً من الفساد المستشري الذي يحدث من آحاد المسلمين بما ترى الأمة وتسمع في كل البلاد الإسلامية والعربية.
وخلاصة القول: أن المستأمن معصوم الدم، ومن قتله لم يرح رائحة الجنة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك يدل على أنه من الكبائر.
ومما يبين أنه من الكبائر: اللعن، فضوابط الكبائر كثيرة ومنها: إذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعل هذه الفعلة فإنها من الكبائر، وهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن أخفر مسلماً -يعني في ذمته- فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)، واللعن معناه: الطرد من رحمة الله جل في علاه، فاللعن هنا لأنه خفر ذمة المسلمين؛ ولأنه خالف عهد النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً فهي من الموبقات والمهلكات، والكبائر، وعلى الإنسان أن يقف وقفة أمام نفسه؛ حتى لا يتجرأ على حدود الله جل في علاه.
وخلاصة الأدلة التي تدل على حرمة قتل الكافر الذي دخل بتأشيرة ولي الأمر في بلاد المسلمين من عدة وجوه: الوجه الأول: أن قتل المستأمن فيه خيانة الأمانة، وهذه من شيم المنافقين وليست من شيم المؤمنين، والله جل في علاه يحث الأمة على أداء الأمانة، فقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، وقال جل في علاه: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل:91]، وهذا فيه تصريح وعموم.
بل قد نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان ممن لا أمانة له، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا إيمان لمن لا أمانة له)، ومن قتل مستأمناً فقد غدره، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (يعقد لكل غادر لواء يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان)، حتى ولو كان المغدور به كافراً، لكن بشرط أنه لا يفعل ذلك صراحة في بلادنا، لكن المقصود أن معتقده الكفر بالله والله جل وعلا هو الذي شرع هذا وليس من عند أنفسنا، ولا بد أن ندور مع شرعنا حيث دار، فلا تحركنا العواطف، ولا تحركنا الحماسات ولا الثورات، بل الدين هو الذي يحركنا تحت ظل قول الله تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42].
إذاً: فالوفاء بالعهد والوفاء بالأمانة هو أول شيء يذكر في بيان حرمة قتل المعاهد.
الوجه الثاني: أنه تعد لحدود الله جل في علاه، والله لا يحب المعتدين، كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:87]، وإذا نفى الله الحب عن عبد فقد أتى هذا العبد كبيرة، وأتى هذا العبد باباً لا يحبه الله جل في علاه، فمن دخل بأمان في ديار المسلمين وهذا الأمان مقرر من ولي الأمر ثم اعتدي عليه من آحاد المسلمين فهذا تعد على حدود الله جل في علاه، وأيضاً فإن الله جل في علاه يقول: {فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193].
الوجه الثالث في الحرمة: أن هذا من الظلم، والله لا يرضى بالظلم، وفي الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله تعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، فإن المستأمن إذا دخل بأمان وقد أمنته على ماله أو أمنه ولي أمرك على ماله وعلى عرضه وعلى دمه، فتجاسرت على هذا الأمان وتعديت هذه الحدود وقتلته، أو سرقت ماله، أو تعديت على عرضه فقد ظلمته ووقعت في الظلم البين، والله لا يرضى على الظالمين ولا يحبهم، وهذه الفعلة فيها مظلمة فقد خفرت ذمة المسلمين وتعديت على أهل الأمان، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة).
وأيضاً عند الطبراني بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً) وهذا تصريح، فقوله: (اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً) أي: وإن ظلمته وهو يكفر بالله جل في علاه فإن الله لا يرضى بالظلم.
والدولة الإسلامية إن قامت على الظلم هدمها الله جل في علاه وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الظلم ظلمات يوم القيامة)، والدولة الكافرة التي كفرت بالتوحيد لو قامت على العدل أقامها الله جل في علاه وأدامها، فدولة الظلم لا يمكن أن تستقر ودولة العدل تستقر، ولا محسوبية عند الله جل في علاه، فليس بين الله وبين عباده واسطة.
الوجه الرابع: أن يقال لمن يقتل المستأمنين: لم فعلتم ذلك؟ فإذا قالوا: نحن نفعل ما أمرنا به النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا: بل هذا خلاف أمر النبي صلى الله عليه وسلم، و (شفاء العي السؤال)، ولو تعلمتم وتفقهتم لعلمتم أنكم خالفتم الله، وخالفتم رسوله، وخالفتم الخلفاء الراشدين، وخالفتم المنهج السديد، وهذا غلو وانحراف لا بد من بتره، ولا بد من تعليم الأمة بأن هذا من الانحراف، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دخل المدينة أعطى العهد لليهود ووفى لهم، وما قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن نقضوا هذا العهد فقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم وفى لأهل نجران ذمتهم، وهذا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف أنت تخفر الذمة وتقول إنك تأتسي برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ بل أنت خالفت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل رسول الله صراحة، فهذا الأول.
الثاني: أنك خالفت فعل الخلفاء الراشدين الأربعة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ).
وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر)، فأنت خالفت فعل عمر وخالفت فعل علي وخالفت فعل عثمان، فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عند موته يوصي بأهل الذمة ويقول: استوصوا بأهل الذمة خيراً، بل يوصي بألا يكلفوا ما لا يطيقون، يعني: لا تكلفهم في الجزية ما لا يطيقون فالغني يعطي من غناه، والفقير يعطي على قدره وبحسبه، والمرأة لا تعطي، والشيخ لا يعطي، والصبي لا يعطي، والمجنون لا يعطي، وفيها حكم المعاملة مع أهل الذمة في الثوابت الذي ضبطها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
بل إن في تاريخ الطبري أن عمر بن الخطاب كان يستقبل الوفود ويسألهم عن أهل البصرة ويقول لهم: هل المسلمون يفضون بالأذى إلى أهل الذمة؟ فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه خير من وفى بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير من وفى بذمة المسلمين، قال: هل يفضون إلى أهل الذمة بأذى؟ فقالوا له: لا والله ما رأينا عليهم إلا الوفاء أي: أنهم وفوا بفضل الله تعالى.
وهذا عمرو بن العاص يسرد لنا أروع الأمثلة في الوفاء بالذمم، فعندما دخل وترأس مصر وفتحها بفضل الله جل في علاه، كانوا أقباطاً، فدانوا بالسمع والطاعة والولاء لـ عمرو بن العاص لحسن صنيعه معهم، ولتطبيق الإسلام الحق معهم، فقد وفى لهم بذمتهم وأخذ منهم الجزية وأحسن معاملتهم ووفوا معه وأحبوا ولايته.
وجاء أيضاً في قضية عمر بن الخطاب عندما تسابق ابن عمرو بن العاص مع ابن يهودي فلطمه أو ضربه بالجرة وقال: خذها وأنا ابن الأكرمين، فذهب اليهودي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يشتكي له، فاستنهض عمر فدعا عمرو بن العاص وابنه فجاءا يهرعان، فذهبا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه فجعلت المحكمة العادلة في محفل بين الصحابة فقال عمر لابن اليهودي: اضربه وهو ابن الأكرمين، فضربه ثم قال: اخلع ما على رأسك فجعل عمر بن الخطاب يخلع عمامته وقال له: اضرب صلعة أبيه، ما فعل ذلك إلا بولاية أبيه، قال: لا والله! أخذت حقي يا أمير المؤمنين! فهذا عدل الإسلام، وهذا هو: وفاء للذمة لأهل الذمة، فكيف نخفر ذمة المسلمين؟ وكيف نخفر ذمة ولي الأمر؟ ففي هذه المسألة خطر جسيم ومفسدة عظيمة لا يعلم شرها إلا الله جل في علاه.
وإذا قلنا: بأنها خ