أما الصفة الثالثة من صفات من يكون من أهل الجنة: أنه يخشى ربه بالغيب، كما قال عز وجل: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [ق:33]، ولسان حاله يقول: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب وهذه هي: عبادة الإحسان، فإنه يعبد ربه كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سأله جبريل: (ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
فقلبه حاضر كأنه يرى عرش الرحمن، فهو يشهد العرش والملائكة تطوف حول العرش، والله فوق العرش يدبر أمر خلقه؛ فكل يوم هو في شأن، فيرفع أقواماً ويخفض آخرين، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، يعلم سبحانه وتعالى وهو فوق عرشه ما عليه الخلق.
فيعلم هذا الحفيظ الذي خشي الرحمن بالغيب قدرة الله جل وعلا، وسمع الله، وبصر الله، وأن الله جل وعلا أحاط بكل شيء علماً وسمعاً وبصراً وقدرة، فإذا تجرأ على المحارم، فنظر إلى محرم قال: بصر الله أسرع، وإذا قدح في أخ له في غيبته، قال: الله أسمع، وإذا هم بالمعصية، قال: الله أعلم بدقائق القلوب وأسرارها.
فهو يعلم أن الله جل وعلا قد أحاط بكل شيء علماً وسمعاً وبصراً وقدرة، فلا تواري عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره.
ولذا فهو يعبد الله بالخشية وبالإحسان، فهو يعبد الله كأنه يراه، فيعلم أنه إذا لم يكن هو يرى الله جل وعلا فإن الله يراه، فلا تخفى عليه خافية، فلذلك يصلح سريرته، وينقي قلبه، فلا دغل ولا حسد ولا حقد ولا ضغينة، فهو يصلح سريرته كما يصلح علانيته، فباطنه كظاهره، وإذا خلى يوماً من الدهر فلا يقول: قد خلوت، ولكن يقول: علي رقيب.
وقد كان بعض العلماء يقرب إليه طالباً من دون كل الطلبة فعابوا عليه ذلك، فقالوا له: أنت تصطفي هذا الطالب من هؤلاء الطلبة، وهم يسارعون في الخيرات؟ قال: أنبئكم بما عليه هذا الطالب من خشية الرحمن بالغيب، ومن عبادة الله بالإحسان، ثم قال له: إني سوف أختبر هؤلاء الطلبة، فأتى بطير، وأعطي كل واحد طيراً وقال له: اذبحه في مكان لا يراك فيه أحد، فذهب كل طالب من هؤلاء الطلبة يذبح طيره، هذا في خربه، وهذا في بيته، وهذا في جنح الليل، ثم جاء كل واحد بطيره مذبوحاً، وجاء هذا الطالب بطيره لم يذبحه، فقال العالم: لِمَ لَمْ تذبح طيرك؟ فكل واحد قد ذبح طيره، فقال الطالب: أنى لي بمكان لا يراني الله فيه؟ فقال العالم: من أجل ذلك قربته؛ فقد خشي الرحمن بالغيب.
وعبادة الخشية بالغيب لا تكون إلا لمن تعمق في العلم بالله، وفي العلم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وقدرته وربوبيته وإلهيته سبحانه وتعالى، وأنار الله بصيرته بالعقيدة والفهم السديد، وأما صاحب الهمة الدون الذي لا يسارع في تعلم فرائض الله جل وعلا، ولا في العلم بالله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى فأنى له أن يكون من رءوس الناس؟! وكيف يخشى الله أو يبلغ درجة الخشية؟! لقد بين الله أن الخشية لا ينالها إلا من سارع في تعلم أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] أي: العلماء الذين علموا بالله وبقدرته وبربوبيته وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى، والعجب كل العجب! من أهل العلم الذين لا يخشون الله سراً ولا علانية، ومن الجاهلين من أهل العلم الذين هم في عداوة وحسد فيما بينهم، وقد قال أحمد بن حنبل عندما شكي إليه وقيل له: إن يحيى بن معين يقول في الشافعي كذا وكذا، فقال: يحيى لا يعرف ما يقوله الشافعي، ومن جهل شيئاً عاداه.
فعليك أخي المسلم أن تسارع إلى العلم بأسماء الله جل وعلا، وأن تسارع إلى حلق العلم وحلق الذكر، فهي من رياض الجنة، فارتعوا في رياض الجنة حتى تصلوا إلى خشية الله جل وعلا، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فمن رام مرافقة الأنبياء فعليه بخشية الله، ومن رام خشية الله فعليه بالعلم.
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء ففز بعلم تعش حياً به أبداً فالناس موتى وأهل العلم أحياء أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه؛ فإنه هو الغفور الرحيم.