الأوبة والرجوع إلى الله من صفات أهل الجنة

أما التفصيل الذي تشوقت له القلوب، واشرأبت لها الأعناق لكي تصل إلى الجنان، وترافق النبي العدنان، وتنظر إلى وجه الكريم المنان، فأول هذه الصفات ذكرها الله جل وعلا بقوله: {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق:32]، فالأوبة صفة للمتقي، والأواب كثير الرجوع إلى ربه جل وعلا، ويقبل عليه ولا يدبر، فكلما اقترف إثماً من الآثام أو اجترأ على محارم الله جل وعلا سارع إلى الأوبة والتوبة، وسارع إلى الرجوع إلى ربه جل وعلا، ويتذكر عند رجوعه قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135]، فأحدهم يتذكره خالياً فيتذكر ذنوبه، فتفيض عيناه بكاءً وخشية من الله جل وعلا، قال تعالى: {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] فهو يئوب إلى ربه، ويهرب من عدوه، ويعلم أن نجاته برجوعه إلى مليكه ومولاه، فالرجوع الأول هو رجوع من السيئات إلى الحسنات، ومن المعصية إلى التوبة، وأما الرجوع الثاني فهو من الغفلة عن الذكر إلى كثرة الذكر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: (غفرانك).

وكان يبين أنه يغان على قلبه؛ لأنه لم يذكر الله، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يكف قلبه عن ذكر الله جل وعلا، بل كان تنام عيناه ولا ينام قلبه، ومع هذا فهو الذي يقول: (غفرانك).

فلابد لنا إذا غفلنا عن ذكر الله جل وعلا أن نرجع إلى كثرة الذكر والقرآن وتلاوة كلام الله جل وعلا، فإن الأواب إذا غفل يرجع إلى ذكر الله جل وعلا، وإن تقاعس عن طاعته فسرعان ما يرجع ويسرع إلى ربه.

لسان حاله يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] فيا فوز من كانت هذه صفته.

وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مبيناً لنا هذا الرجاع الأواب: (أذنب رجل ذنباً فقال: رب أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله جل وعلا: عبدي علم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر، اشهدوا أني قد غفرت له، ثم رجع إلى المعصية)، فكل إنسان خطاء، قال عليه الصلاة والسلام: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فرجع إلى نفس الذنب مرة ثانية، ولكنه يعلم أنه إذا رجع سيجد رباً رحيماً رءوفاً غفوراً، فقال: رب قد أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله جل وعلا: عبدي علم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر، قد غفرت له، ثم رجع).

وهذه طبيعة وجبلة، فرجع للذنب، ثم رجع إلى التوبة، فهو يعلم أنه إذا رجع استقبله الله، بل هرول إليه، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه قال: (إذا تقرب إلي عبدي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة)، فإن الله يفرح بتوبة عبده.

(فرجع فقال: رب قد أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله: عبدي علم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر، افعل ما شئت، ثم ارجع وتب فقد غفرت لك)، أي: افعل ما شئت، ثم استغفر، فستجدني غفوراً رحيماً.

وكذلك يرجع من الوحشة، فالإنسان إذا أظلم قلبه بالسيئات وبالمعاصي وبالتجرؤ على محارم الله جل وعلا فإنه يشعر بالوحشة، وضيق الصدر، فيرجع من هذه الوحشة إلى الأنس بالله جل وعلا، وإلى الأنس بكلام الله، وإلى الأنس بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا عرفه الأولون فقد كان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من كلام الله، فالأنس والمودة بالله يشعر بهما الإنسان المؤمن التقي الرجاع لربه، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إذا أردت أن تختبر حبك لله فاعرض نفسك على كلام الرحمن جل وعلا.

والأواب الرجاع يزداد محبة فوق محبة، وخضوعاً فوق خضوع، وإقبالاً على الله جل وعلا، وتراه قانتاً لله حنيفاً، شاكراً لأنعمه، ولسان حاله يقول: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] فأسأل ربي جل في علاه أن يجعلنا جميعاً ممن يتصفون بهذه الصفة، ويا خسارة وبوار من لم يتصف بهذه الصفة! ويا خسارة وبوار الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون، ونسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من الأوابين التوابين الراجعين إليه جل في علاه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015