وجوب احتراس الإنسان من لسانه

وقال ابن السماك: سبعك بين لحييك.

يعني أن كل إنسان يجب أن ينظر إلى لسانه هذا المحبوس في قفصين: قفص من عظم وقفص من لحم، فالعظم هو الأسنان، واللحم هو الشفتان، فلا يتمكن اللسان من أن ينطق ويخرج الكلام إلا بأن يخرج من بين هذين القفصين وهذين السجنين.

فشبهه بالسبع بأنه يوجد داخل هذا الفم سبع -أي: أسد- لو فتحت له الباب لخرج ولأكل الناس، ونال من أعراضهم، وأهلك صاحبه، ولذلك يقول ابن السماك: سبعك بين لحييك -يعني: بين فكيك- تأكل به كل من مر عليك، قد آذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور.

أي: فرغت من غيبة الأحياء وغيبة الرائح والجائي، وبعد أن انتهيت من الأحياء انتقلت إلى الأموات، فأخذت أيضاً تنبش الموتى، وتذكر عيوب الموتى، فأنت تؤذي الموتى في قبورهم، وتؤذي أقرباءهم من الأحياء، وتؤذي نفسك.

قال: قد آذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور، فما ترثي لهم وقد جرى البلى عليهم.

(فما ترثي لهم) أي: ألا تشفق عليهم؟ وقد انقطع عملهم وفنيت أجسادهم وتحللت وانتهوا، والآن هم في دار الجزاء؟ فلذلك أدبنا النبي صلى الله عليه وسلم مع الأموات -حتى لو كانوا من الظلمة أو الفسقة أو المقصرين- أننا لا نذكر عيوبهم، قال عليه الصلاة والسلام: (اذكروا محاسن موتاكم -يعني: أمسكوا عن عيوبهم-؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) أي: ما عملوه في فترة الحياة الآن هم يحاسبون عليه، فأنت دعه وربه، ولا داعي أن تنشغل أيضاً بذم الموتى.

قال: قد آذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور، فما ترثي لهم وقد جرى البلى عليهم، وأنت هاهنا تنبشهم، إنما نرى نبشهم أخذ الخرق عنهم.

فهل تعتقدون أن نبش الموتى فقط هو حفر القبر من جديد وسرقة الأكفان؟ وهل هذا هو النبش؟

صلى الله عليه وسلم لا بل النبش له معنىً آخر لا يقتصر على الاستيلاء على الكفن كما يفعل النباشون، ولذا قال ابن السماك: وأنت هاهنا تنبشهم، إنما نرى نبشهم أخذ الخرق عنهم، فإذا ذكرت مساويهم فقد نبشتهم، إنه ينبغي أن يدلك على ترك القول في أخيك ثلاث خلال.

هنا يرشد ابن السماك إلى ثلاثة أشياء وثلاث صفات وخصال إذا التزمها الإنسان منعته من إطلاق لسانه بذكر عيوب الآخرين.

قال: أما واحدة فلعلك أن تذكره بأمر هو فيك، فما ظنك بربك إذا ذكرت أخاك بأمر هو فيك؟! أي: فيك نفس العيب الموجود في هذا الشخص، وأنت تذمه بسببه، فمن أولى بالذم؟ قال: ما ظنك بربك -يعني: أن يفعل بك- وأنت تذكر أخاك بأمر هو فيك؟! الثانية: ولعلك تذكره بأمر فيك أعظم منه، فذلك أشد استحكاماً لمقته إياك.

الثالثة: ولعلك تذكره بأمر قد عافاك الله منه، فهذا جزاؤه إذ عافاك؟! أما سمعت: (ارحم أخاك واحمد الذي عافاك).

يعني: إما أنك مبتلىً بشيء مثل الذي فيه، وإما أن تفعل شيئاً أشر مما يفعله هو فالعيب عندك أشد، وإما أن يكون الله قد عافاك من هذا العيب، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! إذا كان الله قد عافاك من هذا العيب وبرأك منه، فهل جزاء هذه النعمة أن تشتغل بذم الآخرين، أم أنك تحمد الله سبحانه وتعالى، وترحم العصاة؟! روي عن المسيح عليه السلام أنه قال: (لا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، ولكن انظروا فيها كأنكم عبيد، إنما الناس رجلان: مبتلىً ومعافىً، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية).

يقول الشاعر: لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن وعينك إن أبدت إليك مساوئاً فصنها وقل يا عين للناس أعين

طور بواسطة نورين ميديا © 2015